القاضي أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
منذ اسبوعين تقريبا تم الاعلان عن حدث صغير في انشطة رئيس الجمهورية وهو اسناد وسام الاستحقاق الوطني بعنوان قطاع الطفولة لسنة 2016 لعدد من المستحقين -او هكذا يفترض- الذين برزوا في هذا المجال (أمر رئاسي عدد 23 لسنة 2017 مؤرخ في 1 فيفري 2017).
وللعلم فان هذا الوسام الوطني يمنح -طبقا لمجلة الاوسمة الموروثة عن نظام بن علي- “لمجازاة كل من تميز في أداء خدمة عمومية أو في مباشرة نشاط خاص وساهم بكفاءته وإخلاصه في نمو البلاد وتدعيم مؤسساتها” (الفصل 32 من المجلة – انظر ايضا الامر عدد 997 لسنة 1998 المؤرخ في 2 ماي 1998 المتعلق بتحديد القطاعات ومجالات النشاط التي يشملها وسام الاستحقاق الوطني).
ومن الطبيعي ان اغلبية المتابعين لم ينتبهوا الى اسناد الصنف الرابع من هذا الوسام الى احدى القاضيات (وهي بالمناسبة قاضي الاسرة بالمحكمة الابتدائية بتونس) لكن ذلك لم يمر دون ان يثير التعاليق والتساؤلات في الوسط القضائي الضيق.
بعضهم نقل بصوت خافت ان الزميلة لم تمارس بصفة مباشرة -ولمدة كافية- احدى الوظائف القضائية المرتبطة بالطفولة. وتورد نفس المصادر انها لم تكتب (ولم تحاول ان تكتب) في موضوع الطفولة او الشؤون المتعلقة بها.
وفضلا عن ذلك فمن الضروري ان نورد حادثة قريبة حصلت بقصر قرطاج مع القاضية التي فازت بالوسام (وتم تداولها خارج الوسط القضائي). وتتمثل وقائع هذه الحادثة في ان القاضية -وهي عضو منتخب بالمجلس الاعلى للقضاء ومن ضمن الناشطين بنقابة القضاة التونسيين- قد دعت بمناسبة اداء اليمين بمعية زملائها امام رئيس الجمهورية بتاريخ 14 ديسمبر 2016 الى انعقاد اول جلسة للمجلس الاعلى للقضاء تحت اشراف رئيس الدولة وبمقر الرئاسة وهو ما يتعارض مع القانون واستقلالية المجلس. ورغم ان الزميلة قد نازعت في بعض تلك الوقائع الا ان ما ورد من مصادر متعددة يؤكد ان عددا من اعضاء المجلس الاعلى للقضاء قد تصدوا لتلك المحاولات (راجع تفاصيل اخرى: صحيفة الصباح الاسبوعي بتاريخ 16 ديسمبر 2016 – صحيفة الشروق بتاريخ 20 ديسمبر 2016).
لكن من الواضح ان تلك المبادرة -التي صدرت عن القاضية عضو المجلس الاعلى للقضاء- قد ساهمت في التنبيه الى “وجودها” وفتحت امامها الباب للتحصيل مبكرا على احدى الاوسمة الوطنية.
وربما لا يبدو ملفتا للانتباه ان عددا من الهياكل التمثيلية للقضاة (نقابة القضاة التونسيين – الجمعية التونسية للقضاة الشبان – جمعية القاضيات التونسيات) قد عبرت عن احر تهانيها للقاضية بذلك “التكريم” واكدت بصفة ضمنية -الى جانب افراد كثيرين- على تمسك الاسرة القضائية بتقليد راسخ يقر للقضاة “بالتميز والكفاءة والاخلاص” و”الاعتراف بحقوقهم” ازاء الدولة (او سلطاتها).
ودون التوقف عند تلك الواقعة -وما شهدناه في ظل النظام السابق من استمرار العمل بتوسيم القضاة في المناسبات العامة- يشار الى ان القانون الاساسي للقضاة العدليين لم يمنع ذلك ان لم يكن اجازه صراحة عندما اقتضى ان “ان التشريفات المدنية يتلقاها اعضاء السلك القضائي (كذا) طبق الشروط المعينة بالتراتيب المتعلقة بالمواكب الرسمية والتشريفات المدنية والعسكرية بالجمهورية (الفصل 28 من القانون عدد 29 لسنة 1967 والمتعلق بنظام القضاء والمجلس الاعلى للقضاء والقانون الاساسي للقضاة).
ويشار في هذا السياق الى ان عددا من سامي القضاة (وحتى من اواسطهم) قد كانوا من جملة “الممنوحين” لارفع الاوسمة كوسام 7 نوفمبر 1987 على عهد الرئيس الاسبق بن علي (راجع على سبيل المثال الأمر عدد 3495 لسنة 2009 المؤرخ في 14 نوفمبر 2009 المتعلق بمنح وسام 7 نوفمبر 1987 الذي تضمن فيما يخص القضاة اسناد الصنف الاول من الوسام لمحمد اللجمي والصنف الثاني لعبد المجيد بن فرج وعبد الستار بن نور وطارق بنور والصنف الثالث للطفي الدواس ورضا خماخم).
ومن الملاحظ ان وسام 7 نوفمبر 1987 كان يمنح طبق القانون “لمجازاة خصال كل من ساهم في إعادة اعتبار سيادة الشعب وترسيخ الديمقراطية ولكل من يعمل على تدعيم مكاسب 7 نوفمبر 1987”.
ويبدو ان العادة -معززة بالقانون- قد تغلبت في الاخير ولم تترك مجالا للتساؤل عما اذا كان توسيم القضاة يخل بحيادهم ويلحق الاضرار باستقلالهم ام ان الامر لا يدعو الى المبالغة (في التشنيع) وان توسيم قضاتنا من شانه يحافظ على الحد الادني من الاعتراف لهم بالجميل؟.
الاوسمة ومحاذير الفساد:
ربما يستغرب البعض الدفع بهذا الموضوع الى دوائر الفساد ويرون ان الانحراف في هذا الباب ليس خاصا بالقضاة. لكن التامل في الممارسات -الوطنية والمقارنة- يبرز المخاطر الجدية “لاغداق” الاوسمة على اكثر الوظائف استقلالا وحيادا.
وفي هذا الصدد يمكن القول ان الاوسمة الرمزية تكتسي لدى عدد من المستفيدين اهمية اجتماعية وتمثل كذلك عنوانا للهيبة في مجتمع يقدس المظاهر. ولذلك تسعى الاخلاقيات القضائية الى الحد من تاثير التوسيم على نزاهة القضاء واعتباره.
وفي هذا السياق يمكن الاشارة الى مبادئ بنغالور للسلوك القضائي (وهي بمثابة مشروع دولي للاخلاقيات القضائية تم اعداده سنة 2001) التي تشترط لحصول القاضي على هدية رمزية او مكافاة او ميزة ان لا يكون الهدف من ذلك التاثير على القاضي في اداء واجبات منصبه القضائي او انها تدعو للتحيز (المبدا 16.4).
وفي ارتباط بنفس الموضوع اوردت “مجموعة الدول ضد الفساد” -وهي من اهم الهياكل المحدثة من قبل مجلس اوربا للسهر على احترام معايير مكافحة الفساد من قبل الدول الاعضاء- “ان كل ميزة او تشريف يمثل عنصرا ذا حساسية محتملة مما يدعو الى الاحتياط لذلك على مستوى الانظمة الداخلية (للقضاة)”. كما لاحظت “ان قبول القاضي لمثل هذه الاوسمة الرسمية سواء من الوزارة المختصة او من رئيس الجمهورية كانت في بعض الاحيان موضع انتقاد او نقاش في دول مثل فرنسا”. وقد حاول المشرع الفرنسي خلال سنة 2011 منع بعض الالقاب الفخرية على القضاة استنادا الى مبدا الاستقلالية والحياد”.
لكن المجموعة تتساءل مع ذلك “عن الرسالة السلبية التي يمكن ان تنتج عن غياب التوسيم في حالات خاصة “وتقترح” ان تتم مراجعة معايير اسناد الاوسمة والتشريفات الفخرية للقضاة بقصد الحد من التاثيرات المحتملة على حيادهم واستقلالهم” (انظر تقرير المجموعة بعنوان “الوقاية من فساد البرلمانيين والقضاة واعضاء النيابة العمومية” المصادق عليه من قبل مجلس اوربا بتاريخ 6 ديسمبر 2013 والمنشور في 27 جانفي 2014).
الغاء التوسيم ودواعي الاستقلال:
لكن توسيم القضاة -وان لم يشهد في تاريخ القضاء التونسي ازدهارا خاصا- فانه اتخذ في الغالب شكل المكافاة التي تمنح اساسا من رئيس الجمهورية او باقتراح من وزير العدل الى عدد من “الموظفين القضائيين” الذين عرفوا في العهد السابق “بقضاة الادارة”.
وبسبب هذا “الارث” -الذي يخشى استعماله في بيئة قضائية “هشة” لم تشهد اصلاحات عميقة او تغييرا اساسيا في طبيعة العلاقات بين القضاء والسلطة التنفيذية- ربما يبدو من الملائم ان نكون اكثر وضوحا وثباتا وذلك باقتراح ان يتم بصفة مطلقة منع اي شكل من اشكال التوسيم الصادرة عن السلطات اذا كان القاضي مباشرا لوظائفه وقبل ان يحال على التقاعد لبلوغه السن القانونية.
ويتضح على سبيل المقارنة ان عددا من الدول في العالم قد تخلت -في قوانينها وعاداتها- عن اسناد الاوسمة للقضاة المباشرين حتى ان فرنسا -التي خضعنا الى تاثيراتها في هذا الشان وغيره- قد بقيت من الدول الاوربية النادرة التي تقر امكانية توسيم القضاة.
غير ان القضاء الفرنسي قد وجد في تاريخه القريب فرصا متاحة للتخلص من هذه “الهدايا المشبوهة” الا ان التقاليد “الثقيلة” قد حالت دون تنفيذ ذلك.
وفي هذا الصدد يشار الى اقتراح -في شكل مشروع قانون* صدر في مارس 2005 عن الاتحاد النقابي للقضاة بهدف منع اي توسيم للقضاة المباشرين استنادا الى ان القانون يمنع “اسناد الاوسمة الى اعضاء المجالس البرلمانية لاجتناب وضعهم تحت تاثير السلطة التنفيذية ولضمان التفريق بين السلط “كما” ان تطبيق هذا الحكم على القضاة من شانه تطوير استقلالية القضاء في مواجهة السلطة التنفيذية” اضافة الى تمكين فرنسا من التساوي مع جيرانها الاوربيين الذين لا يعرفون مثل هذه المكافات (صحيفة لوموند الفرنسية – 24 مارس 2005).
ولعل ابرز الاقتراحات في هذا الشان هو مشروع القانون الاساسي الذي سبق تقديمه من النائب “روني دوزيير” الى الجمعية الوطنية الفرنسية بتاريخ 25 ماي 2007 بهدف تنقيح النظام الاساسي للقضاة وتضمينه “ان القضاة لا يمكن لهم قبول اي توسيم عمومي اثناء ممارستهم لوظائفهم”. وقد آل المشروع -رغم قبوله بلجنة التشريع- الى الرفض بتاريخ 13 ديسمبر 2011 بتعلة “ان القضاة يحتاجون ايضا الى اعتراف الامة” حسب تصريح وزير العدل والحريات الفرنسي ميشال مرسيي (وكالة رويترز في نفس التاريخ).
ويتضح ان شرح الاسباب المرفق بذلك المشروع قد ارتكز على فكرة اساسية تتعلق باستقلال القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية فضلا عن نظرية التفريق بين السلط كيفما اوردها مونتيسكيو. وقد اعتبر صاحب المشروع ان منع القضاة من قبول الاوسمة اثناء حياتهم الوظيفية من شانه ان يدعم هذا الاستقلال. واضافة لذلك استند المشروع الى الواقع القضائي الذي يبرز ان بعض القضاة يرون في قبول التوسيم عملا فاضحا وغير طبيعي زيادة على ان الوسام الممنوح (او الميدالية) لم يعد علامة تميز لقاء اعمال غير عادية بل علامة عن تميز اجتماعي وخطوة في مسار مهني كامل. وفي جانب اخر فان هذا المنع يمثل الطريقة المثلى لكي يتخلى المواطن عن التساؤل حول اسباب المكافات التي من المفترض ان تكون بدائل طبيعية عن خدمات مقدمة. (راجع نص القانون وشرح اسبابه بالموقع الالكتروني للجمعية الوطنية الفرنسية – وثيقة عدد 3810).
وفي ضوء هذه التبريرات راى البعض ان ذلك المنع يبدو غير ملائم فضلا عما يثيره من مشاكل ذات طبيعة دستورية. ومن جملة التحفظات التي عادة ما يتم الاحتجاج بها ان المنع يتنافى مع مبدا المساواة الوارد بالدستور ويحول ايضا دون الاعتراف لبعض القضاة المتميزين بما بذلوه من اعمال غير عادية (انظر في هذا الخصوص – ملاحظات تكميلية للاتحاد النقابي للقضاة حول مشروع القانون بتاريخ 12 ديسمبر 2011- الموقع الالكتروني للاتحاد النقابي).
حساسية ضد التشريفات الفخرية:
ومهما كانت الاسباب التي تدعو الى الحد من الاثار السلبية لتلك الاوسمة او التشريفات فمن الواضح ان “التيار المناهض” لهذا التقليد بقي راسخا في الاوساط القضائية لعدد من الدول الديمقراطية وهو ما يشجع على تجسيم ذلك المنع في بلادنا عند مناقشة النظام الاساسي للقضاة ومدونة السلوك المرتبطة به.
ومن المناسب ان نشير الى ان المحاولات التي انطلقت في فرنسا منذ اكثر من عقدين لالغاء ذلك التقليد لم تهدا جذوتها الى الان ومن المفارقات -قياسا بواقع القضاء في تونس- ان الذين تميزوا من بين القضاة في مقاومة تلك الظاهرة هم من رواد الحركة النقابية القضائية.
وربما يدهش الكثير من اعلان فريد بادر به منذ شهرين تقريبا القاضي المتقاعد لوي جوانيي (وهو مؤسس نقابة القضاء الفرنسية في 8 جوان 1968 وبالمناسبة سبق لي مقابلته بتونس بمعية الزميل عياض الشواشي في شهر ديسمبر 2012) ويتعلق بتاسيس “جمعية القضاة الحساسين للاوسمة”. وقد اورد الاستاذ جوانيي في نص الاعلان المنشور في 15 ديسمبر 2016 ان الجمعية -التي سبق التصريح بها طبق القانون في 16 نوفمبر 2016- تهدف الى “العمل على ان لا يقبل قضاة الصنف العدلي مستقبلا الاوسمة بصفتهم المهنية فضلا عن السعي الى اقرار مشروع القانون المتعلق بمنع بعض الاوسمة عن القضاة كيفما تم عرضه في 27 ماي 2007 من قبل النائب روني دوزيير”.
كما اشار الاعلان الى ان “توزيع الميداليات على القضاة من قبل اصحاب السلطة التنفيذية يتناقض مع الاستقلالية التي يجب لا فقط ان يتحلى بها القضاة بل ان يشعروا الناس بوجودها اضافة الى تناقض ذلك مع مبدا التفريق بين السلط”.
وقد تضمن ذلك الاعلان ان الجمعية الناشئة “تبقى مفتوحة لكل القضاة من الصنف العدلي سواء كانوا من المباشرين او المتقاعدين اضافة للملحقين القضائيين وان الانخراط المجاني في الجمعية يقتضي اما الالتزام بعدم قبول الاوسمة واما الالتزام بعدم حملها بالنسبة لمن تم توسيمه قبل الانخراط بالجمعية” (انظر الاعلان بوكالة فرانس بريس بتاريخ 15 ديسمبر 2016).
ومهما كان فقد يظهر ان الموضوع لا يمثل جوهر المشاكل التي يشهدها القضاء التونسي وان الامر يقتضي اكثر من ذلك لكي يصبح القضاء عادلا ونزيها ومستقلا.
لكن المسالة لا تخلو في النهاية من الدلالات والتاثيرات على صورة القضاء واستقلاله ونظرة الناس اليه.