المرزوقي رمز وطنيّ…

نور الدين الغيلوفي
1. قل ما شئت في المرزوقي.. واختلف معه كيفما اشتهيتَ.. فمن حقّ كلّ مواطن أن يكون له رأي في شخصيّة وطنية عامة من وزن الدكتور محمّد المنصف المرزوقيّ.. وحرّية التعبير مكفولة من قبل الدستور للجميع.. ولم يجن التونسيّون شيئا إلى حدّ الحظة مثل الحرّية التي حُرموها زمنا طويلا.. ولكن ليس لأحد أن يزايد على الرجل في حبّه لهذه البلاد وفي تقديره لشعبها والدفاع عنه وعن كرامته.. وليس لأحد أن يُنكر نضال رجل قدّم حياته، ولا يزال، من أجل الإنسان وحريته…
2. لقد كان المرزوقي، وهو الطبيب، لو أنّه رضي بلزوم صمته واكتفى بالمتاح والمباح، قادرا على أن ينعم بعيش مترف في عهد النظامين البائدين: البورقيبي المجرم والنوفمبري الفاسد.. ولكنه آثر شعبه على نفسه واختار من الطرق أوعرها في زمن كان فيه كثير ممن يصمّون اليوم الآذان بصخبهم في أحسن أحوالهم يمارسون ابتزازا رخيصا على منظومة التعذيب فلا يستلقون لها إلّا بعد أن ترميَ لهم من فُتاتها.. ولا يعترف هؤلاء الحرافيش بفضل الثورة التي جعلت لهم ألسنة بعد أن كانت العقدة تحبسهم والجبن يخرسهم.. صارت لهم ألسنة حداد يصيبون بها أنصار الثورة ويتجنّون على رموزها.. لقد كانوا يهاجمونهم أمس تقرّبا إلى المخلوع وزبانيته وهاهم يهاجمونهم اليوم عقابا لهم على مواقفهم المنتصرة للشعب.. “يأكل من زادي ويمسكني”…
3. ماذا قال المرزوقي حتّى ينبريَ الأشباه لمحاربته وتشويه صورته؟ وماذا فعل حتّى تتعاوره الألسن وتنهشه ذئاب أدمنت أكل الميْتة والدم ولحم الوطن؟ لقد عدت إلى برنامج “المقابلة” الذي أجراه الإعلاميّ القدير علي الظفيريّ على قناة الجزيرة القطرية وتتبّعت أقواله وحركاته فرأيته يقول ما يقوله أغلب الناس في تونس.. وما قاله بعض الساسة إثر انتخابات أكتوبر 2011 كان أبعد مدى وأشدّ أذى على الشعب مما قاله الرئيس المرزوقي.. لم يكن المرزوقي وقحا وكان هؤلاء وقحين.. كان المرزوقي شجاعا وكان هؤلاء جبناء.. وكان المرزوقي منسجما مع نفسه في حين كان هؤلاء يسيرون على غير منهج ويقولون الرأي وضدّه.. لقد كان كلامه عاقلا رصينا موزونا في حين كان كلامهم انفعاليا يعكس فساد جبلّتهم.. تركوا كلّ ما درَسوا ودرَّسوا إلى شخصياتهم العميقة الكريهة التي راحت تهاجم كل شيء وتعفّن كلّ نقيّ وتقبّح كلّ حَسَن.. وليس ما كتبته تلك الإعلامية الرديئة على صفحة وجهها ببعيد.. لمّا هاجمت تاريخ البلاد وعناوين تراثها بدعاوى لا مرجع لها غير بعض الأساطير والخرافات بحثا عن أصل لها يعادي العروبة وأهلها…
4. كان الرجل يتحدّث عن عودته إلى تونس بعد 15 سنة قضاها في فرنسا.. وكان في معرض المقارنة بين الشعبين التونسي والفرنسيّ في موضوع العمل.. قال: “كان والدي يحذّرني من السياسة قائلا: إذا أردت أن تكون نافعا لبلدك فكن طبيبا جيّدا ودعك من السياسة وأهوالها.. ولقد سرت على هذه النصيحة.. قضيت 15 سنة في فرنسا ورأيت كيف يعمل المجتمع الفرنسيّ.. ولما رجعت لممارسة مهنة الطبّ في تونس اكتشفت كيف يعمل المجتمع التونسيّ: المحسوبية والرشوة والعمل السيّء والكذب والنفاق.. وكان ذلك صدمة.. ولمّا بحثت في الأمر اكتشفت أن القضيّة ليست متعلّقة بجينات التونسيّ.. فنحن التونسيين القادمين من فرنسا كنّا نمارس أعمالنا كما يمارسها الفرنسيون. وحين أتينا إلى تونس وجدنا التونسيّ يدخل في كلّ العمليّات السيّئة: الخداع والكذب والرياء والسرقات.. واكتشفت أنّ هذا ليس متعلّقا بطبيعة التونسيّ وإنّما بطبيعة النظام السياسيّ الموجود آنذاك…”.
5. لقد كان كلام الرجل تشخيصا صادقا من طبيب خبير بالأفراد وبالمجتمعات.. لم يكن في حديثه إساءة للشعب التونسيّ ولا تجنّ عليه.. ومن المفارقات أن الذين يهاجمون الدكتور المرزوقي هم انفسهم أكثر الناس إساءة للشعب التونسيّ وتعاليا عليه.. فهو شعب لا يعرف مصلحته بحسب حكمهم ولا يحسن الاختيار ولا يستحقّ أن تُترك له حرية الاختيار.. ويظل في حاجة إلى وصايتهم إلى الأبد لأنهم لا يريدون أن يطلعوه على أسرار الحداثة التي عرفوها ولا أن يجودوا عليه بمراهم التقدّمية التي يعتمدونها وحدهم دون سواهم… كان الرجل يعني ما يقول.. يتحدّث عن زمن عودته من فرنسا لمباشرة مهنة الطبّ بعد إتمام دراسته هناك.. وما ذكره في وصفه هو من قبيل الأمراض الاجتماعية والأخلاقيّة المستعصية التي تسبّبت في انهيار المجتمع وسيادة الفوضى وانتشار الفساد.. وقد جاء الوقت ليخرج هذا الحديث من الزوايا الضيّقة ليكون وصفا لموجود يراد له أن يتغيّر باجاه بناء إنسان يكون قادرا على الفعل والنفع.
6. المرزوقي حقوقيّ ممتاز.. غير أنّ حقوقيته لا تمنع كونه سياسيا ممتازا.. قد لا ينسجم سلوكه السياسي مع الكثيرين ولكن ليس لهؤلاء أن يمارسو وصايتهم على الناس فيدّعوا أن السلوك السياسي يحتاج أن يمرّ عبر مسالك رسموها وتواضعوا عليها.. فمن حقّ الرجل وهو المثقّف الجريء أن يكون سياسيا على طريقته.. ومتى أمكنه إقناع الناخبين بمواقفه ومشاريعه كان مثل غيره جديرا بالموقع الذي يصير بمقتضى الانتخابات إليه…
المرزوقي رمز وطنيّ بامتياز رغم أنف الحرافيش المتربّصة.

Exit mobile version