القاضي أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
ربما يبدو الحديث عن حماية “رواتب القضاة” مستفزا بسبب ما يبثه ذلك لعموم الناس من نزعة الامتياز او ما يدعو له من حماية على حساب الاخرين. لكن بعيدا عن كل ذلك فان رواتب القضاة التونسيين تعد -مقارنة بالاوضاع المادية لكل قضاة العالم- اضعف الرواتب على الاطلاق وهو ما يدرج قضاتنا ضمن الطبقات المتوسطة من عامة الشعب. وليس مستغربا ان تجد من بين العائلات -التي يراسها قاض- حالات خصوصية هي اقرب الى الاحتياج خصوصا اذا كانت ربة البيت لا تعمل او ان عملها في حكم العدم.
ولكم ان تلاحظوا ان هذا الموضوع يلفه في الغالب السكوت وان تحركات القضاة قد تركزت منذ الثورة على المشاغل المتصلة “بالمصالح المعنوية” او “حقوق المتقاضين” او”استقلالية القضاء”.
وقد ادركت -بمناسبة ما لحق القضاة اخيرا من خصم في رواتبهم تطبيقا لقانون المالية الجديد- ان الوعي لم ينقطع لدى الناس وبعض نخبهم بضرورة حماية الوضعية المادية للقاضي سواء في الحالات العادية او الاستثنائية.
وفي هذا الشان يمكن ان نقرا لبعضهم -وهو يعلق على الاجراءات “القاسية” التي طالت القضاة كغيرهم من موظفي الدولة- ان “ظروف العمل صعبة للغاية للقضاة… كم هائل من الملفات ينتج عنه ضغط نفسي كبير على القاضي. لا أجور عالية ولا حوافز مادية مشجعة ولا عوامل وظروف عمل مريحة ولا حماية للقاضي الذي ينظر في ملفات حارقة تضع حياته على المحك… يريدونه قضاء مُستغَلا لا مستقلا… عمل كبير يذكر فيشكر يقوم به القاضي اليوم أمام تجاهل تام لوضعيته الحرجة. شكرا للسادة القضاة على تفانيهم في العمل وشكرا للحكومة على تفانيها في تجاهل مطالب السلطة القضائية” (Bj Oussama). وفي صيغة مباشرة واكثر حدة يتساءل البعض الاخر “ما فمش في تونس شكون ياخذ في حقو كامل ويزيد يقصو للمناصب الحساسة ويقولو شبيه يفسد ؟!… ليس كل الناس لهم حصانة اخلاقية كي يتحملوا ضنك الحياة… الا يفقهون؟!” ( Naama Sagefemme).
ولهذا السبب كانت رواتب القضاة وحمايتها هاجسا قديما لدى كثير من الامم حتى ان بعض الدول حرصت على تضمين ذلك بدساتيرها كاحد المبادئ الاساسية لاستقلال القضاء، من ذلك ما نص عليه دستور الولايات المتحدة الامريكية الصادر عام 1789 من انه “يبقى قضاة كل من المحكمة العليا والمحاكم الأدنى درجة شاغلين مناصبهم ما داموا حسني السلوك، ويتقاضون، في أوقات محددة، لقاء خدماتهم، تعويضات لا يجوز إنقاصها أثناء بقائهم في مناصبهم” (المادة 3 الفقرة 1).
ولنا في هذا السياق ان نتساءل متى يدخل هذا المبدا رؤوس حكامنا الجدد ؟! متى يدركون ان الحط من رواتب القضاة -وهم في مناصبهم- يفتح الباب “لفساد” الدولة !!