أبكوا على الشمال الغربي

كمال الشارني
عندنا مثل في الشمال الغربي يقول “تسيبها فلاليس وتحاوزها طيور”، يعني تضيعها وهي ما تزال فراخا، ثم تلاحقها وقد أصبحت طيورا،
(السيد والي… يدعو كافة مكونات المجتمع المدني والمواطنين إلى المساهمة والمشاركة في قافلة الخير المتجهة إلى ولايات الشمال الغربي التي ستنطلق على الساعة السابعة صباحا)، هل نحن منكوبون أم ثمة من نكبنا ؟
في 1971، دخلت المدرسة الابتدائية في قرية سد وادي ملاق بولاية الكاف التي بناها المستعمرون البغيضون، لكنهم تركوا لنا قرية جميلة في كل بيت منها فيراندا خشبية وحديقة أمامية مليئة بالورود للاستقبالات وأخرى خلفية عائلية للأشجار المثمرة ومساءات الربيع الجميلة المطلة على غابات الصنوبر، تركوا لنا أيضا، ملعبين لكرة القدم، ثلاث ملاعب لكرة السلة واليد منها واحدة مغطاة، ملعب للكرة الطائرة والتنس وثلاثة ميادين للكرة الحديدية، آه، لكي لا أنسى: أنهج القرية كانت مضاءة بالكامل بالأضواء العمومية، وكانت فيها ساحة كبيرة لنصب العلم الوطني والاحتفالات العامة، زارها بورقيبة وقدم لي ولغيري هدية وثلاث جوائز في نهاية السنة الدراسية 1974، الفرنسيون لم يفعلوا ذلك لوجه الله، إنما لأن ثمة ما يستحق أن يستثمروا فيه ويرسلوا إليه أبناءهم، سياسيو العصر الحديث أغبى من قادة أمبراطورية روما قبل 18 قرنا، الرومان أرسلوا أنبل أبنائهم للسكن في “سركونة” مثلا، وفي ألتيبيروس في الدهماني حيث أقاموا مدينة حقيقية على مساحة 25 هكتارا و”فوروم”، منتدى للثقافة والأفكار والحرية، وأقاموا طرقات معبدة من أوتيك إلى دقة أو سيكا فينيريا (الكاف) ومنها إلى سبيطلة حتى تيمغاد في جبال الأوراس في الجزائر، كل ذلك لأجل ما يعرفونه من خيرات عمق “أفريكا” كما سموا تونس اليوم، تلك التي وفرت المخزون الاستراتيجي من الحبوب للإمبراطورية الأقوى في تاريخ البشرية بمقاييس وقتها،
اليوم، لم يبق في الريف إلا من عجز “من الفلاليس” عن الطيران واللحاق بالمدن، لأن الدولة الوطنية أقامت أمجادها على المدن الكبرى في ثقافة الكونتوار والسمسرة، حيث المدرسة، الطبيب، الثقافة وخصوصا قرار السلطة المركزية، وحيث تستطيع أن تسكن في العاصمة وتملك رخصة محطة وقود أو لواج في الكاف، أو مقهى في جندوبة، أو تجارة أعلاف مدعمة وأنت موظف عمومي في احدى إدارات الدولة المركزية ثمرة للولاء للمركز في مقابل احتقار الأصل المنتج، حتى أصبحت العبارة السحرية في الريف هي “عندكش أشكون تعرف في تونس؟”، حتى لعلاج بسيط أو وثيقة قانونية عادية، لأنه في الريف، كل الأشياء تتراجع: الخدمات والدولة، حتى عدد الذكور مقارنة بعدد الإناث، عدد المواليد أيضا، عدد السكان في النهاية، على مدى أكثر من نصف قرن، قاموا بتخريب الريف وتفقيره ودفع سكانه إلى هجرانه هربا من الفقر والجوع والشقاء والاحتقار، في سنوات السبعين، أنا أدركت سكة فرانسا في دشرة نبر كانت تنقل الناس وأطنان الحبوب من القمح الصلب وخيرات البلد من الفلاحة والمناجم، وكانت عندنا محطة جميلة وأنيقة، وفي منتصف السبعينات، بعثوا لها من قلعها من أصلها، (عرفت فيما بعد أين وضعوها)، ترك لنا المعمرون (الأشرار) في تلك المنطقة نزلا جميلا وسباقات المراكب البحرية في سد ملاق وكان النسوة والأطفال يلبسون يوم الأحد أجمل ملابسهم من أجل تلك الحفلات، لم تبق من كل ذلك سوى المطعم الحانة أي “البلعة” البذيئة، وحدهم أطفال المعمرين كانوا يعودون إلينا في سنوات السبعين والثمانين من أجل ذكرى صباهم الجميل حتى انقرضوا،
أضاعوا الشمال الغربي، ويبكون اليوم على فقره،
الصور: محطة دشرة نبر مجرد ذكرى، صورتان لبحيرة وسد ملاق.

Exit mobile version