محمد بن نصر
يغلب على بَعضنا التعامل مع الأشياء بشكل تجزيئي، معزولة عن بعضها البعض، فنسارع إلى الإدانة وننخرط في ترديد شعارات الغالب دون وعي بمآلاتها الكارثية. وعليه من الضروري إبراز خيطها الناظم حتى لا نغرق في اللحظة الراهنة.
نتج الرحيل العسكري للمحتل عن بلادنا عن أمرين: المقاومة المسلحة التي كلفته الكثير والنخبة الحديثة التي ضمنت له الحفاظ على مصالحه بعد أن عهد إليها تسيير البلدان المستقلة حديثا. كان عليه أن يعطيها فرصة بناء مقومات الدولة العصرية حتى تكتسب مشروعية فاقدة لها، تستطيع أن تزيح بها القوى التي حررت البلاد بالفعل.
الانتشاء بفترة ما بعد الاستقلال لم يدم طويلا وعاد التوتر بين المجتمع الذي يطمح إلى الحرية والعدالة الاجتماعية وأجهزة الحكم التي أصبح همّها البقاء المدة الأطول في السلطة. كان من الطبيعي أن ينحاز المحتل القديم للسلطة الموالية له فساندها بكل الوسائل في صراعها مع شعوبها ولما خرجت تصرفاتها عن طاقة احتماله نظرا للضغط الذي تمارسه عليه مجتمعاته المدنية تخلى عنها على أن يستبدلها بأخرى لا تقل منها بطشا.
واجه في الأثناء مشكلة جديدة لم يضعها في الحسبان أو لنقل لم يكن يتوقع أن تكون تأثيراتها بهذا الحجم. كانت أخبار جرائم الأنظمة التي تعمل بالوكالة أو جرائمه المباشرة تنتشر بشكل محدود ولا يهتم بها في الغالب إلا عدد قليل من المناضلين، مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي أصبح الجزء الأكبر من هذه الجرائم يُنقل مباشرة وأصبح التجاوب معها في بعض الحالات آنيا لأن كل الأنفس السوية بطبعها ترفض الظلم وتسارع إلى التضامن مع الضحية كل حسب جهده وبما أن العدد الأكبر من ضحايا التوحش العالمي هم من المسلمين أو على الأقل من ضحايا التوحش العسكري لأن التوحش الاقتصادي شملت مظالمه الجميع، جاءت تهمة الإرهاب لتضرب أكثر من عصفور، الضحية والمتعاطف معها والقوى المدنية في المجتمعات الغربية الرافضة لممارسات دولهم.
هذا المنهج القائم على تبييض جرائم القوي لأنّه يحارب إرهابيا متوحشا، أسهم بشكل كبير في طمس ودسّ الشعور بالتعاطف مع المظلومين وما أكثرهم بل أصبح من الطبيعي التساؤل عمن سفّر المجاهدين، لاحظوا الإصرار على مسألة التسفير حتى لا تكون المناصرة فعلا إراديا وبطوليا، ولا نتساءل عن شبكات الإجرام الاقتصادي التي راح ضحيتها عدد من الصعب تحديده من المحرومين الذين تلقفتم البحار والمحيطات. وممّا سهّل هذه المهمّة الربط بين مناصرة المظلوم وظاهرة الدعوشة المتوحشة.
المقصد الأساسي من قوانين الإرهاب ليس محاربة العنف والجريمة وإنّما عزل القضايا العادلة شعوريا وعمليا والإجهاض على مناصريها حتى تستمر جرائمه دون رادع شعبي وإنساني وحتى يظل الحريق مشتعلا في هذه الأوطان فيسكنها البؤس والخراب ثم يأتوا بعد ذلك “ليعمّروهاّ” وتدور عجلة اقتصادهم الراكد.
كل هذا يُعتبر أمرا طبيعيا في إطار منطق القوي الذي يسعى دائما للحفاظ على شروط تفوقه ولكن الأمر غير الطبيعي أن تُصبح مناصرة المظلوم عند بعض المسلمين جريمة وأن يصبح الجهاد ضد الظلم إرهابا.