طارق العبيدي
6 سنوات مضت على هروب الطاغية بن علي وتهاوي نظام حكمه والحراك الشعبي والسياسي في تونس متواصل بين مد الثورة وجزر الثورة المضادة وحناجر الشعب وأقلام نخبه لم تكف على المناداة بالتنمية والتشغيل والمساواة وإعادة توزيع الثروة الوطنية بالعدل على الجهات وبين مختلف شرائح الشعب.. 6 سنوات والجديد المبني على أمل الحرية والكرامة والتنمية يصارع القديم المتجذر في تركة الفساد الكبير الذي خلفه نظام الاستبداد والمستشري في كل أركان الدولة إلى درجة تزكم الأنوف.
نقطة البداية كانت من ذلك الشاب الفقير محمد البوعزيزي صاحب عربة بيع الخضر في مدينة سيدي بوزيد الذي أشعل النار في جسده ذات 17 ديسمبر من سنة 2010 احتجاجا على إهانة الدولة له عندما كان يسعى بعربته البسيطة لبيع خضره لإعالة أفراد أسرته، فكانت ردة فعل الشارع سريعة، انتشرت الاحتجاجات الشعبية كالنار في الهشيم لتأخذ طريق الثورة المعهود في تضاريس وجبال الجهات الداخلية المهمشة وتصمد صمودها البطولي في مدينتي القصرين وتالة أهم معاقل الثورة وتتوسع إلى مدن الشمال الغربي فكل المدن الأخرى، إلى أن أوصلها الشعب الثائر إلى قلب اكبر شارع في العاصمة أين تجمهر ذات 14 جانفي 2011 عددا كبيرا من كل أطياف الشعب أمام مبنى وزارة الداخلية رمز التعذيب والقمع والاستبداد وهم يهتفون برحيل الطاغية ورحل فعلا بن علي في ذلك اليوم.
كان المحامون والنقابيون والحقوقيون في الصفوف الأولى لكل المسيرات الشعبية السلمية التي جابت شوارع البلاد نهارا. وكان الشباب الغاضب يكيل الصاع بالصاع لقوات الأمن التي تحاول قمع تحركاتهم باستعمال الهراوات والغاز المسيل للدموع تارة وبالرصاص الحي تارة أخرى. وكلما سقط منهم جريحا أو شهيدا يزداد إصرار الشعب على الاحتجاج والتظاهر والمضي قدما في المواجهة ورفع الشعارات المعادية لنظام الحكم والمنادية بالحرية والكرامة.
بعد هروب الطاغية، تحرر التونسيون وكانت فرحتهم كبيرة لشعورهم بميلادهم من جديد. واكتشف بعضهم بعضا وظهرت حقائق المظالم والانتهاكات التي ارتكبها نظام الاستبداد في حق كامل البلاد، وطفت آلام الشعب الممزوجة بفرحة الانتصار على السطح. واستمروا في حراكهم وتحولت احتجاجاتهم إلى مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية تشكل من اجلها اعتصام الشعب في ساحة الحكومة بالقصبة وهو الاعتصام الذي عرف بـ»اعتصام القصبة 1». وتكرر الحراك الشعبي بعد مدة تحت اسم «اعتصام القصبة 2» الذي طالب بإسقاط الحكومة وانتخاب مجلس وطني تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد للبلاد. سقطت فعلا حكومتا الغنوشي الأولى والثانية وتم حل البرلمان والبلديات وتشكلت حكومة توافقية مهمتها الذهاب إلى انتخابات مجلس تأسيسي وتشكلت هيئة تحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي وانتخب الشعب التونسي لأول مرة في تاريخه انتخابا حرا مباشرا تعدديا المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011.
أضاف المجلس التأسيسي معركة داخلية جديدة قبل أن ننتهي من معركتنا الكبرى مع بقايا النظام القديم، إنها معركة الإخوة الأعداء من اجل بناء البيت الداخلي للدولة الديمقراطية الجديدة، وهي المعركة التي كانت أمرا ضروريا وحتميا باعتبارها أهم مؤشر على الشروع في محاولة العيش المشترك دون إقصاء أو تكفير أو تخوين من اجل بناء حياة سياسية تعددية ديمقراطية سلاحها الوحيد صندوق الاقتراع بدل الصندوق الأسود للبوليس والجيش.
عاش التونسيون الفرقة والتشتت والتناحر طيلة فترة «الترويكا» والمجلس التأسيسي. وأتاحت معركة الإخوة الأعداء منفذا لعودة قوى المنظومة القديمة التي استغلت معركة الدستور لتستغل كل الفساد الكامن في أجهزة الدولة وإدارتها وإعلامها وتفتح باب جهنم على الشعب.
عشنا الاغتيالات السياسية التي كانت مصحوبة بالدعوة إلى تدخل الجيش والأمن والانقلاب على الديمقراطية وعشنا التهديد بعودة القمع وفتح مراكز التعذيب والمحاكم والسجون للسياسيين.. مع كل ذلك نجح التونسيون في التوافق على صياغة دستور الحرية والكرامة سنة 2014، وإرساء هيئة للحقيقة والكرامة لكشف حقيقة الانتهاكات التي ارتكبها حكم الاستبداد في عهدي بورقيبة وبن علي، وهيئة مستقلة للانتخابات وذهب الشعب مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع في نفس السنة التي تم فيها التصويت على الدستور وهي سنة 2014.
صحيح ان الشعب التونسي ذهب للانتخابات سنة 2014 وهو محملا بشحنة الكراهية والحقد وتزييف الحقائق..، لكنه انتصر انتصارا كبيرا بذهابه للانتخابات التي جنبته الانقلاب الدموي الذي كان يهدد به ليلا نهارا طيلة فترة المجلس التأسيسي. انتخابات 2014 كانت عنوانا كبيرا لعودة المنظومة القديمة، لكنها في نفس الوقت عنوانا اكبر لانهزام الانقلابيين وانتصار الديمقراطية. هذه الديمقراطية إذا استمرت هي السبيل الوحيد لضمان الحرية والكرامة للشعب التونسي، وهي التي ستحقق له كل المطالب التي رفعها في اعتصام القصبة 2 ولو بعد جيل.
شهر واحد كان كافيا لسقوط نظام حكم الطاغية وهروبه وست سنوات لم تكن كافية لتفكيك شبكات عصابات القمع والفساد التي خلفها حكمه. حقيقة معاشة في كل الشعوب التي نهضت على أنقاض جلاديها وأرادت بناء نظام حكم ديمقراطي بديل بدءا من الإرادة الحقيقية للشعب دون استعمال وسائل الاستبداد والفساد التي كان يستعملها نظام الاستبداد ودون انتقام من رجاله ونسائه.
أنين جرحى الثورة وعائلات شهدائها لا يزال صوت عورتنا التي عجزنا عن تغطيتها.. ضحايا انتهاكات منظومة الاستبداد لا يزالون تحت وطأة مظالم الخفاء الأسود لجلاديهم في اي مكان قصدوه. ست سنوات من الحراك والبناء السياسي ولم نصل بعد إلى تركيز ثالث ركن من أركان الدولة وهو المجلس الأعلى للقضاء. ست سنوات من البناء السياسي ولم نصل إلى الانتخابات المحلية التي ستمكن الجهات المحرومة من المسك بزمام التنمية الجهوية وإعادة توزيع الثروة الوطنية بالعدل.
ست سنوات من الثورة على الفساد، وكل أشكال الفساد لا تزال تنخر كل ركن من أركان الدولة. إنها التركة الكبيرة لستين سنة من حكم الاستبداد والفساد. والغبي من لا يدرك بان مهندسي الدولة الجديدة غارقون في معالجة واستئصال الأمراض الخبيثة -وما أكثرها- التي تعمد الحكام المستبدون تركها تستشري في جسد هذا الشعب الطيب.. وعندما يتعافى الجسد من أمراضه يستعيد حيويته ويبدأ في العمل والإنتاج.