الثورة والصراع بين تاريخ المعاني وجغرافيا المباني

عبد الرؤوف العيادي

الحمد لله وحده
جلسات الإنصات لشهادات البعض من عائلات الشهداء والجرحى وضحايا القمع الإجرامي لنظامي بورقيبة وبن علي التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة أعادت الثورة للمشهد من جديد، وبفتح سجلها من الصفحات السوداء كتبت بالعذابات والقهر والتعدي والإجرام واستباحة المواطن.

انه التاريخ الذي وان تفصل في روايات لسيرة ذاتية لكل ضحية، فانه يجتمع ويتوحد حول المعاني المشتركة التي ناضل كل تيار وكل فرد من اجل العيش بها ومن اجل تبنيها من المجتمع كافة، بما يحقق توازنه ويكسبه شروط القوة المعنوية التي تنهي واقع القمع والاستباحة وواقع السقوط المعنوي الذي ميز النظام الدكتاتوري لذلك كانت عملية الربط بين الفرد والمجتمع فحسب وإنما بين الماضي والحاضر، فكان السعي لتجديد المعاني وإعادة تعريف مفاهيمها وإعادة صقلها بارتباط مع التاريخ إذ استحضرت معاني الحرية والكرامة التي قام عليها فكر حركة التحرر الوطني زمن الاستخراب (الاستعمار) وجددت معانيه التي نادت بالقطيعة مع أجهزة الدكتاتورية (يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب، وزارة الداخلية وزارة إرهابية) ونظام التبعية والتهميش (استملاك الثروات المنهوبة، والمطالبة بالتشغيل والتنمية) وكان واضحا أن صناعة التاريخ تبدأ بصناعة المعاني وتقترن بإنتاج فكر المرحلة الذي يشكل انجازه اختبارا لقدرة النخبة على القيام بدورها أو قصورها عن ذلك.

مقابل ذلك كانت عودة منظومة الثورة المضادة بعد انتخابات 2014 مصحوبة بإعادة نصب صنم بورقيبة أمام وزارة الداخلية، والتعويل على الدعم اللوجيستي والمخابراتي للدول الغربية في الاشتغال على جغرافيا الأجهزة بعنوان التعاون عبر تأهيلها وتنويعها (بعث قطب الإرهاب) دون مراجعة العقيدة التي قامت عليها -أو الإحالة على المعاني التي صنعها تاريخ الثورة، علما وأن هذه المنظومة لا تحتاج إلى نخبة مثقفة بقدر ما تحتاج إلى مجرد تكنوقراط لتشغيل الأجهزة لا غير.

وفي ذات السياق نشير إلى أن احد رموز نظام بورقيبة وزير الداخلية السابق المجرم الطاهر بلخوجة كان اقترح في حديث أدلى به يوم الأحد 7 جانفي 2016 بالقناة “الوطنية 1” بناء أربعة أو خمسة سجون جديدة، بما يعكس مرة أخرى إرادة في دعم الأجهزة والمباني على حساب المعاني. وللتذكير كان زرع نظام بورقيبة -عبر تونسة الإدارة- ورفع العلم الوطني على المباني التي تاويها، وقد صحب ذلك عملية إفراغ معاني الحرية والكرامة التي رفعتها حركة التحرر الوطني والاستعاضة عنها بوضع أسماء وأوصاف تمجيدية للأجهزة التي تشمل جغرافيا النظام الدكتاتوري “مجلس الأمة” “الأمن الوطني” “الحرس الوطني” “مجلس الدولة” والحال أنها أجهزة النظام القائم وأدواته في قمع المواطن وكسر إرادته الحرة.

وعلى نفس المنهج سار بن علي في تركيب منظومة من الأجهزة (حزب / بوليس / قضاة / إعلام) لذلك لا تتعجبن من ضعف النخبة التونسية وقصورها، نخبة مؤهلة أساسا لتلعب دور تكنوقراط القمع.

إن أجندة الثورة تطرح إعادة بناء مؤسسات دولة حقيقية على أنقاض أجهزة الدكتاتورية، على أساس من الضوابط تستلهم قواعدها من معاني الثورة في الحرية والكرامة.

ويمكن القول أننا نعيش مأزق الثورة المضادة في اشتغالها خارج التاريخ وما اقترن به من معان وقيم في حين بدت النخبة غير مؤهلة للقيام بدورها في صناعة فكر الثورة الذي يشكل قاعدة إعادة بناء مؤسسات دولة حقيقية. ونخشى أن تطول أزمة إعادة البناء بفعل تحالف العملاء مع الجبناء.

17 ربيع الثاني 1438
الموافق لـ 15 جانفي 2017

Exit mobile version