33 سنة على أحداث الخبز … إلى كل من كذب على الشعب
محمد بن رجب
غدا يا سيدي تمرّ بنا الذكرى الثالثة بعد الثلاثين على قتل مئات المتظاهرين في تونس احتجاجا على الترفيع في ثمن الخبز …
لقد قرر الرئيس الحبيب بورقيبة رحمه الله الترفيع في ثمن الخبز تحت تأثير بعض المتأمرين من حوله من الذين يبحثون عن اي درب يسلكونه لاسقاط محمد مزالي الوزير الاول انذاك… والذين تمكنوا من اقناعه بأن الخبز يلقى به في المزابل والناس لا يعطونه القيمة التي يستحقها لأن ثمنه منخفظ جدا وقد ذكر بورقيبة بالاسم في خطاب له في هذا الموضوع السيد زكرياء بن مصطفى الذي كان آنذاك رئيسا لبلدية العاصمة… قائلا… لقد دعوت شيخ المدينة المكلف بالزبلة.. هكذا قال بورقيبة وهي طريقته في تحقير الشخصيات التي يرى أنها يجب أن تبتعد عن الحكم والسلطة وتذكروا ما قاله عن السيد الباهي الأدغم وما قاله عن فؤاد المبزع وعن أحمد بن صالح.. كلهم وصفهم بأقذر الأوصاف حتى يحملهم كامل المسؤولية فيما يحدث من آلام للشعب التونسي جراء قرارات تصدر باسم رئيبس الجمهورية…
سأل بورقيبة السيد زكرياء بن مصطفى.. هل صحيح أن الناس يلوّحوا في الخبز… ولا نعرف ماذا قال السيد زكرياء بن مصطفى. المهم أن بورقيبة هو الذي قال للشعب… سي زكرياء متاع الزبلة أعلمني أن زبلة المواطنين فيها الكثير من الخبز ولذا قررت الترفيع في ثمنه… يومها حاول السيد محمد مزالي الوزير الأول آنذاك أن يمنع صدور قرار رئاسي للترفيع في ثمن الخبز… وهي نصيحة اعدائه لتوريطه.. من ذلك ان وزير المالية.. ووزير الاقتصاد يؤكدان صباح مساء ان الامور لن تستقيم ان لم يتم الترفيع في ثمن الخبز… ونبه السيد محمد مزالي بورقيبة الى المخاطر التي قد تنجر عن هذا القرار الا أن بورقيبة أصر على موقفه… فخرج الشعب يوم 3 جانفي 1984 في غضب عارم في كامل الجمهورية.. وكالعادة اندسّ جماعة اليقظة وميليشيا محمد الصياح التابعين للحزب الحاكم وهو “الحزب الدستوري” وسط الجماهير الهادرة وبدؤوا يحدثون الهرج والهيجان ويكسرون ويحرقون كل ما يعترضهم في الطريق… وعلم بورقيبة بالانفلات الحاصل في البلاد فأمر باطلاق النار وأخرج الجيش من ثكناته آمرا اياه بفرض النظام بالقوة… وبالفعل استشهد أكثر من 300 تونسي يومها وقد اعترفت السلطات بـ 176 قتيل هكذا…
وفي المساء خرج بورقيبة وقال للشعب كعادته غلطوني ولذا نرجع وين كنا… نعم هذا ما فعله بورقيبة بكل بساطة “نرجعو وين كنا”… وعاد الناس الى بيوتهم حزانى على ما حدث وعلى الدماء التي سالت وعلى مئات الشهداء الأبرياء ماتوا ولا ذنب لهم سوى المطالبة بحقهم في ثمن للخبز يقدرون عليه.. كما ان هناك مئات العائلات كانت قلوبها تحترق لا فقط علة العدد المرتفع للشهداء بل ايضا على مئات الموقوفين الذين امتلأت بهم محلات الشرطة ومراكز الايقاف.
في تلك الأثناء خرج آلاف الدساترة وتعانقوا مع رجال الأمن والجيش وقالت الاذاعات والتلفزة كانت هناك تلفزة واحدة هي تلفزة النظام… قالت بأن الشعب التحم بالجيش والأمن اثر الخطاب التاريخي العظيم لبورقيبة حيث اعاد الأمور الى نصابها بعد الخطأ الذي قام به البعض في تهييج الشعب بسبب الترفيع في ثمن الخبز وقد أعاد بورقيبة الأمور الى نصابها وسيعاقب المتسببين في الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد…
وقد اكتشف بورقيبة يومها أن ادريس قيقة وزير الداخلية أراد استغلال الفرصة يومها فشارك بطريقته الخاصة في تهييج الجماهير فأغرق البلاد في دم كثير وهو يفعل ذلك لجعل بورقيبة يغضب من محمد مزالي الوزير الأول فيبعده عن الحكم ويعينه هو عوضه عنه رئيسا للحكومة. وكعادة بورقيبة ارتمى على ادريس قيقة الذي لم يكن أبدا بريئا… وقد تحدثت جريدة الراي عن هذا الحادث المؤلم واكدت مؤامرة ادريس قيقة… المهم ان بورقيبة حمل قيقة المسؤولية وأطرده من الحكومة وعمل على تقوية جانب الوزير الأول محمد المزالي باعتبار أنه كان يعرف أنه بريئ من دم المواطنين وخاصة وانه كان نصحه بعدم الموافقة على الترفيع في ثمن الخبز…
وللأسف أن المؤرخين و90 بالمائة منهم بورقيبيون قالوا بأن أحداث 3 جانفي مفبركة وهي نتيجة لصراع القصر من أجل خلافة بورقيبة وان بورقيبة أبدا لم يعطي اي امر بالقتل.. وبعضهم من اهل اليسار قالوا… لا حل لبورقيبة في ذلك اليوم غير اطلاق النار ليستتب النظام.. فللنظام احكامه..
وهم يقولون بذلك اثر الثورة بعد ان عادوا الى فكر بورقيبة التحاما بالنداء خوفا من الترويكا وخاصة النهضة والمنصف المرزوقي… وقد عمل المؤرخون دوما وطيلة أكثر من ثلاثين سنة على تبرئة بورقيبة من دم الأبرياء الذين ماتوا برصاص الجيش ورجال الأمن… وهو نفس الشيئ الذي فعلوه عندما كتبوا عن الخميس الأسود في 26 جانفي 1978 حيث استشهد المئات وحسب جريدة لوموند تجاوز عدد الشهداء الالف شهيد.
والسؤال هو لماذا أقوم باستدعاء جريدة لوموند والاستشهاد بها… ببساطة لأنه لا يوجد مصدر غيرها فالصحافة التونسية كانت بيد السلطة وحتى جريدة الصباح المستقلة التي كنت آنذاك اعمل فيها محررا لم يكن في امكانها أن تقول أي شيئ آخر غير الذي يصلها من القصر أو من وزير الاعلام.
طبعا هذا لا يبرر صمتها…لكن لا حل لها غير ان تلتزم بالاخبار الرسمية مع بعض الاجتهادات التي لا انكرها شخصيا من الزميل المدير عبد االطيف الفراتي…
وبالمناسبةأذكر ايضا بان الصمت الذي دخل فيه السيد الطيب البكوش غير مبرر. (..الذي مسك وزارة التربية بعد الثورة ثم وزيرا للخارجية) وهو الذي كان آنذاك الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل وهو يعرف كامل تفاصيل الجريمة النكراء التي حدثت في تونس بأمر من بورقيبة لانقاذ النظام من سطوة اتحاد الشغل وبتنفيذ من زين العابدين بن علي الذي كان آنذاك مديرا للأمن الوطني… والسيد الطيب البكوش دخل السجن يومها مع مئات النقابيين وخرج ليصبح فيما بعد الأمين العام للاتحاد ولم يقل شيئا الى الآن ولا أريد أن أحلل الموضوع أكثر…
وبعد أكثر من سنة حدث الهجوم على قفصة فنسي الناس الأحداث السوداء ليوم الخميس الأسود واهتموا بالهجوم الذي نفذه جمع من التونسيين القادمين من ليبيا بأمر من معمر القذافي الذي خطط لاسقاط السيد الهادي نويرة الوزير الأول آنذاك وفرض نظام يميل الى القذافية وفعلا كانت نتيجة الهجوم على قفصة انهيار صحي للسيد الهادي نويرة الذي تسبب في اسقاط الوحدة بين تونس وليبيا المتجسمة في اعلان ميلاد دولة واحدة اسمها الجمهورية العربية الاسلامية يوم 12 جانفي “دائما جانفي” 1974 تضم تونس وليبيا وعاصمتها القيروان رئيسها بورقيبة ورئيس الوزراء معمر القذافي ومن قبيل الصدف أن زين العابدين بن علي الذي كان شابا آنذاك جاء اسمه ضمن أعضاء الحكومة لدولة الوحدة كوزير للأمن باقتراح من معمر القذافي… وهذه حكاية أخرى…
المهم اليوم أن أشير الى أن كل رجال الحزب الحاكم آنذاك والتجمع فيما بعد والنداء اليوم لا يريدون الاشارة الى هذه الأحداث حتى يقدموا للناس صورة وهمية عن بورقيبة وحتى يبرئوه من أي حادث سياسي أو نقابي أسود… هو بريئ والمجرمون هم الذين يعلن عنهم بورقيبة، عندئذ يتجند الاعلام والأمن والقضاء ورجال كتابة التاريخ وفق رغبات بورقيبة ومحمد الصياح مؤرخ القصر للتأكيد على عظمة بورقيبة ونظافة سريرته وتحميل أخطاء النظام ومفاسده على كاهل كل الذين أراد بورقيبة ابعادهم مثل أحمد بن صالح والباهي الأدغم والهادي نويرة الذي لم يرحمه بورقيبة فقد سارع بتعويضه ما ان زاره في بيته ووجده مصابا بشلل في يديه بسبب الأزمة في قفصة التي احتلها لأيام جماعة القذافي… ثم كان نصيب محمد المزالي الذي تحمل الأذى الكبير عام 1986 بسبب مؤامرات كان يحوكها النظام ضد المزالي دون أن يكون زين العابدين بن علي بريئا من هذه المؤامرات حيث سقط النظام في يديه يوم 7 نوفمبر 1987… وهذه مسألة أخرى قد نعود اليها… المهم الآن أن يعرف الناس أن ما يقال لهم عن بورقيبة هو محظ وهم يكتبه ويخرجه جماعة بورقيبة من المستفيدين من النظام ومن الفاسدين والكثير منهم مازالوا في الحكم الآن أو هم يحكمون من وراء الستار…
نعم بورقيبة كان له الكثير من الأعمال الجليلة في التعليم وفي الصحة وفي تحرير المرأة وحتى في هذه الميادين لم يكن المبادر بل ان الأرضية كانت خصبة لانطلاقة الدولة على أسس حديثة ومهمة فلا تنسوا المعاهد الكبرى المنتشرة في تونس مثل الصادقية والعلوية وخزندار ودار المعلمين بالمرسى ومعهد البنات بنهج الباشا ومعهد بنزرت ومعهد سوسة ومعهد صفاقس… دون ان ننسى المدارس الثانوية والاعدادية المنتشرة في كامل البلاد من قبل الاستقلال بعشرات السنين.. وفي الصحة كانت هناك مستشفيات كبرى مثل شارل نيكول والرابطة والحبيب ثامر واريانة.. ولا ننسى منوبة دون الحديث عن بعض المستشفيات المهمة بما فيها مستشفى محترم في منطقة المناجم وبالتحديد في المتلوي الذي لم يعد ذا اهمية من عشرات السنين..
هذا لا يعني ان بورقيبة لم يقم بمجهود كبير في هذا المجال… ابدا كانت له الايادي البيضاء لكن لا يجب المبالغة فنسند له كل مجهودات الوطن له وحده وكانه النبي الذي نزل بعدد من اامعجزات…
لكن أيضا كانت له الكثير من الأعمال التي يجب أن يقراها التاريخ من جديد لأن كاتبي التاريخ البورقيبي في جلهم من المستفيدين منه وبعضهم كانوا في أعلى المناصب في الحزب والدولة والبعض الآخر كانوا في دواوين الوزراء أو رؤساء معاهد وجامعات…
ولذا فان تاريخنا البورقيبي في حاجة الى قراءات أخرى حتى لا يواصل النظام في كذبه للسيطرة على العقول… ألم تروا أن معارك اليوم السياسية تتأسس على الخلاف حول من يستحق أن يكون خليفة بورقيبة في الفكر والسياسة… وذلك لمزيد احكام السيطرة السياسية اعتمادا على تجربة بورقيبة… ولا أحد قال يوما أن بورقيبة أمر ثلاث مرات بقتل المواطنين المطالبين بحقهم في الحياة الكريمة بشكل مغاير عن الحياة التي يقترحها نظام بورقيبة…