في ضرورة الإنصات المتبادل
إذا كانت أغلب القوى العلمانية تعاني من “رُهاب الإسلام السياسي” باعتباره وجودا غير سويّ في الحقل السياسي، الذي لا يمكن أن يُدار إلا بالتمييز الفلسفي والقانوني المؤسساتي بين النّصابين السياسي والديني بالمعنى “الحصري”، الذي انحدر إلينا من النموذج اليعقوبي الفرنسي، فإنّ أغلب النهضويين يعانون هم أيضا من “رُهاب العلمانية” باعتبار أنهم لا يتمثّلون صراعهم مع الدولة زمن بن علي أو قبله على أساس أنه “صراع تأويلات” يجمعها المشترك الإسلامي، بل باعتباره صراعا بين تأويل إسلامي “مقاصدي” وجملة من “الإسقاطات” الحداثوية التي فرضتها الدولة الوطنية، في إطار عملية التحديث القسري والفوقي و”اللاديني” للمجتمع.
ولعلّ الفارق بين الرّهابين هو أنّ الأوّل تحكمه مصالح مادية ورمزية متعينة في الواقع، كما أنه يشتغل عن طريق المقايسة والاستباق الاستراتيجي -باعتبار النهضة لن تختلف في شيء عن طالبان أو القاعدة أو الصومال أو السعودية، أو باعتبار أنها في أحسن حالاتها لن تستطيع تجاوز التسييجات المذهبية المتحكمة في العقل السياسي الإسلامي ما قبل الحداثي-، بينما يشتغل الثاني عن طريق الذاكرة الحية للأجساد والأرواح التي اكتوت بنار “الحداثة” خاصة في مظهرها الأمني-الاستخباراتي الذي جعلهم لا يُفلتون من “تنّين” الدولة حتى إن نجوا من السجون أو خرجوا منها إلى السجن الأكبر، حيث عانوا من الحرمان من أبسط الحقوق المدنية، من سياسة التجويع وهشاشة الوضع المادي، من المراقبة الإدارية والتفنّن في نسف الكرامة الإنسانية، من الاغتراب والشعور بالمطاردة و”قابلية القيم” القادم من كل الجهات عموديا وأفقيا -أي من الآخر المقموع لأسباب غير سياسية، ومن السلطة ومن يدور في فلكها من النخب “المشبوهة”-، لقد عانوا باختصار من مأسسة وضعية “السامري” الذي تجاوزت قصته مستوى الحدث الفردي لتتحول إلى مستوى الواقعة الجماعية المأساوية.
لا يمكن فهم الواقع السوسيو-ثقافي في تونس بعد الثورة وما يحكمه من اصطفافات وصراعات، إلا إذا ما تمّ تدبّره من منظور تعدّد العوامل التفسيرية، تلك العوامل التي ترفض التفسير بـ”العامل المحدد”، وتفيض عن “الأحداث” المباشرة والدوافع “العقلانية” للفعل أو لردّ الفعل، لترتبط بسلطة الذاكرة والمخيال والتجارب الفردية والتضامنات الجماعية، التي يحكمها السعي إلى تحقيق “الإشباع النفسي” أكثر مما تخضع إلى منطق الإقناع العقلي وآليات التفكير الصوري.
مبدئيا، يمكننا الحديث عن وجود ثلاثة نماذج مثالية -بالمفهوم الفيبري- تنتمي إليها كل الانتقادات الموجّهة إلى النهضة، ولكنها بالطبع لا تحضر بالضرورة “صافية” في أي خطاب، بل تتداخل وتتفاعل مع غلبة أحدها على الآخر، تبعا لمواقع التلفظ وغاياتها النهائية. وهذه النماذج المثالية هي:
1. النقد السياسي البراغماتي: وهو نقد قد يصدر من المواطن غير المنتمي سياسيا كما يمكن أن يصدر عن النخبة السياسية إذا ما أدارت الصراع، من خلال محاورة النهضة -التي كانت النواة الصلبة للترويكا بعد انتخابات التأسيسي سنة 2011 والشريك الأهم لنداء تونس بعد انتخابات 2014- في طبيعة أدائها السياسي المرتبط باستحقاقات الثورة وبانتظارات المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية. ورغم قيمة هذا النقد “في ذاته” فإنه لا يكتسب قيمته التداولية، إلاّ من خلال ربطه بخلفية المتلفظ وطبيعة علاقاته التوافقية أو العدائية بالنهضة، وبموقفه من الإسلام السياسي بصفة عامة.
2. النقد الشرعي المذهبي: وهو نقد يأتي أساسا من يمين النهضة (أي من السلفيات بأنواعها ومن حزب التحرير)، ولكنه قد يأتي من بعض أجنحة النهضة التي تجد صعوبة في “التأصيل الشرعي” بعض مواقف “الحركة”، وهؤلاء النهضويون إمّا أن يكونوا من المناضلين القدماء الذين عجزوا عن تمثّل المراجعات التي قامت بها حركتهم، وإمّا أن يكونوا من القواعد الشبابية ذات التكوين “السلفي”، وهي قواعد يمكن نعتها بأنها “شبه سلفية” أو سلفية غير مكتملة، بحكم غلبة التأثير الوهابي الفضائي عليها.
3. النقد الأيديولوجي العلماني: وهو نقد يأتي من التيارات السياسية العلمانية بمختلف عائلاتها الليبرالية والقومية واليسارية. وبالطبع فإنّ النقد في هذا المستوى يتوجّه إلى اختيارات فكرية واقتصادية وقيميّة كبرى هي مناط الاختلاف بين هذه التشكيلات السياسية العقائدية والنهضة. وتكمن صعوبة التمييز بين هذه الخطابات في أنها تتحالف واقعيا ضد النهضة لتُكوّن نوعا من الجبهة الميتا-أيديولوجية التي تذوب فيها الاختلافات الجذرية بين مجموعة من الأطراف المتصارعة “نظريا” (يمين ليبرالي/يسار ماركسي/دعاة القومية العربية/دعاة الدولة القُطرية والأمّة التونسية…)، فمحاربة “الرجعية الدينية” وحماية “النمط المجتمعي التونسي” يدفعان إلى خلفية المشهد سائر التناقضات “الهامشية”، التي قد توجد بين مكوّنات “العائلة الديمقراطية”، أي الأحزاب التي يقوم رأسمالها الرمزي على اعتبار أطروحاتها النقيض المفهومي للإسلام السياسي.
لا يمكن أن نفصل النقد الموجه لحركة النهضة عن “الدوافع النفسية” فضلا عن القناعات العقلية للمتلفّظ به. فقد ينتقد النهضوي حزبه انطلاقا من نظام توقّع تمّ الانزياح عنه سياسيا أو شرعيا، ولذلك فهو ينتقد “اللامعيارية” وغياب المبدئية في الأداء السياسي، ولكنه لا يخفي تضامنه مع هذا الكيان الحزبي في مواجهة “الآخر”، سواء أكان آخرا إسلاميا أم آخر علمانيا. وقد ينتقد الوطني الصادق النهضة لأنها ابتعدت عن منظورات الثورة واستحقاقاتها، ولذلك فهو ينتقد فاعلا سياسيا رئيسيا “خان” مستضعفي الدواخل والقواحل، وسعى إلى إعادة إنتاج اختيارات النظام السابق نفسها مع شرعنتها بمفردات دينية. وقد ينتقد اليساري الاستئصالي النهضة لأنها تنتمي إلى زمن ثقافي آخر يجوز “جَبّه” بالسجون أو بالمقاصل، أو بتجفيف المنابع في نسختها النيو-دستورية؛ ولذلك فهو في أغلب الأحيان موظّف في “قلم” نداء تونس وحلفائه الموثوقين. وقد ينتقد السّلفي النهضة لأنها تقف في “برزخ” ملتبس بين دار الإسلام ودار الكفر وتنافس “دين الحقّ” في نسخته الوهابية في احتكار المنابر الدينية، ولذلك لم تتورّع السلفية حين اشتدت شوكتهم زمن الترويكا خاصة عن “شيطنة” النهضة وتفسيقها، بل تكفيرها أحيانا.
ما بين من يطالب النهضة بالعودة إلى أفق الحراك الثوري ومراجعة اختياراتها وتحالفاتها واستراتيجياتها في التعامل مع باقي القوى الوطنية ومطالبها المشروعة، وبين من يطلب -صراحة أو على استحياء- من الثورة بأن تحثّ الخطى نحو ورثة التجمع والانقلاب على كل انتظارات التونسيين، بدعوى حماية النموذج المجتمعي التونسي، يوجد الكثير من مواضع التلفّظ النقدي الموجّه ضد النهضة. وهي مواضع قد يكون من الخطأ الفادح ألاّ تعمل النهضة على الإنصات إليها ومحاورتها؛ بحثا عن صيغ توافقية تجنّب البلاد “كارثة” الحرب الأهلية لا قدر الله. ولكنّ هذا الإنصات النهضوي للنقد -وربما ممارسة النقد الذاتي- لا يعني -من جهة أولى- أن تصبح الحركة مجرد مسخ قد يعجب زرّاع الحداثة المأزومة، ولكنه سيغيظ لا محالة منتسبيها والمتعاطفين معها بحكم انسلاخها من هويتها وتطبيعها مع منظومة الفساد والتغريب، كما أن هذا الإنصات النهضوي لاحترازات القوى الحداثية يحتاج -من جهة ثانية- إلى إنصات مقابل، ومراجعات مماثلة من جهة العلمانيين، مراجعات تتصل خاصة بعلاقتهم “المشبوهة” أو على الأقل الملتبسة بالمنظومة الحاكمة قبل الثورة وبعدها.
إنّ إحساس النهضويين بأنهم مستهدفون بصورة منهجية، وبأنهم غير معترف بهم بصورة طوعية ونهائية في الحقول السياسية والمدنية والإعلامية -بل حتى في الإدارة والنقابة- (رغم الاعتراف بوجودهم “القانوني”)، يجعلهم يديرون علاقاتهم بالنخبة بتوجّسٍ كبير، خاصة أنّ الكثير من مكوّنات تلك النخبة السياسية، لم يكن غريبا عن الآلة القمعية الأمنية-الحزبية التي أدار بها المخلوع بن علي -مسنودا باليسار الثقافي- الهولوكست ضد النهضويين والمتعاطفين معهم في بداية التسعينيات من القرن الماضي. وهو ما يجعلنا نتساءل في نهاية هذا المقال عن التطمينات التي استطاعت النخب العلمانية أن تقدمها “واقعيا” -لا فقط خطابيا- للنهضويين -وللإسلاميين الذين يلتزمون بالعمل السياسي السلمي والقانوني-، تلك التطمينات التي ترتبط أولا باستحالة عودتهم إلى دائرة الاستهداف الدولاني الممنهج مثلما حصل في عهد المخلوع، كما تتصل ثانيا بتجاوز القوى العلمانية للمنطق الانقلابي، الذي قد ينسف المسار الديمقراطي في صورة ما جرت رياح الانتخابات القادمة بما لا تشتهي سفن “العائلة الديمقراطية”.
عربي21