من حكايات الخريف
عبد الحميد الجلاصي
فصل: في ان السياسة بعيدة عن الرياضيات، وانها الى الكيمياء اقرب.
1. اكثر ما تظهر اللامساواة، انما تظهر في التفاوت بين وحدات الزمن
فقد تمر السنوات ذوات العدد رتيبة، متشابهة، يكرر النهار النهار، ويكرر الليل النهار. وقد تأتي اللحظة فتقلب الموازين، وتغير البوصلة، فتدشن زمنا جديدا. عجيبة هذه اللحظة من يوم الخميس، الخامس عشر من ديسمبر، وعجيبة هي الايام التي تلتها. عجيبة هي دماء الشهداء. هي مباركة، تحمل دائما البشائر، والحياة، والمستقبل. هو الموت حينما تنبجس منه الحياة. هي البذور حينما تصبح ورودا. هي يد الاقدار تلقي ما يحرك البرك الراكدة. هو التاريخ حينما يسأم الرتابة.
2. علينا ان نفهم ما الذي حصل في الايام الاخيرة
هي خمسة ايام عدا، ولكن يمكن ان نعتبرها حقبا. اليومان الأولان كانا للبهتة والحسابات ! المنتظم الرسمي بالمعنى الواسع والعميق، اقصد الدولة، وجميع الاحزاب، والمنظمات، والجمعيات، كان متوافقا علىى منهج في التعاطي يتراوح بين التهوين، والطمس، والتزييف. كان متوافقا دونما تشاور، هو “اجماع سكوتي”، بما يكشف عن وجود سمات مشتركة، وسقف محدد للعقل السياسي، بقطع النظر عن الخلفيات، والنوايا، والرهانات. ما المزاج الشعبي فقد كان قابلا للتوظيف، يميناً وشمالا.
3. بين رهانات وحسابات الساسة، وحيرة المزاج الشعبي
كنا امام احتمال الاغتيال الثاني للشهيد. ولكنه أنقذ. فمن الذي أنقذه ؟ سنجد أنفسنا امام مشهد سريالي. أنقذته حماس التي احتضنته وخدمها حينما تحررت من التحفظات السياسية والدبلوماسية، عندما ادركت ان القتلة سيتباهون بجريمتهم، فمن ذَا الذي سيخدم القضية مستقبلا ان تجاهل أهله دمه، ومضى كضحية مجهولة لخصومة عادية، او فقيدا مشبوها في عرضه واخلاقه ؟ وأنقذه الكيان الغاصب عندما لم يفوت الفرصة للتباهي “بيده الطولى”، وما درى انه بذلك يوفر تلبية لحاجة لبطولة ما لدى التونسيين، فما بالك اذا كانت البطولة حقيقية. مكر التاريخ يقول ان القناة العاشرة صبت في النهاية في ارادة حماس وخدمت استراتيجيتها. ومكر التاريخ يقول ان القناة العاشرة انقذت المهندس الشهيد من الاغتيال الثاني !!
4. هنا نصل الى المنعرج في هذه الايام الخمسة الاستثنائية
الاحساس بالاحباط وجد ما يملؤه. نتذكر مجددا اننا مدرسة ابطال، من خلال القضية التي وحدت التونسيين على مر العقود : فلسطين. تستعيد الثورة حضورها. ففي مثل هذه الايام، من سنوات ست، اشعلنا شرارة اعادة بناء العالم. اذن : نحن قادرون. بالتدريج تنحل عقد لسان النخب. ويرتفع النقاش ويرتفع سقفه. نعود “الى السرديات الكبرى… الى الأيديولوجيا بمعناها الإيجابي كمنظور كلي تجتمع تحت سقفه الاستراتيجيات وتكتيكاتها، نعود الى سوْال الاخلاق، عودا حميدا” كما علق احد الاصدقاء. دماء الشهيد ترج الوعي، وتعيد البوصلة الى وجهتها الحقيقية.
مرة اخرى ننتبه ان التاريخ ليس معادلة رياضية. وان المفاجأة احدى وسائله لتحريك الاوضاع. وان تطور الأحداث ليس دائما بيد الأطراف التي حركت خيوطها الاولى. سيندم الكيان الصهيوني على جريمته. الاحساس الشعبي التقط اللحظة، وضغط على العقل السياسي الذي انتبه انه لا يمكنه الا المسايرة. لعلنا هنا نتذكر القصبة الاولى، والقصبة الثانية حيث أنقذ الزخم الشعبي الثورة من الحسابات الضيقة للسياسيين.
5. في الوضع الديموقراطي يمكن ان تتحرك دوائر متعددة كل حسب اختصاصه
تحركت دوائر متعددة احتفاء بالشهيد. تحركت دائرة الانتماء الجهوي (صفاقس)، ودائرة المهني (قطاع الهندسة)، ودائرة الانتماء الفكري (فلسطين)، و و تحركت الدوائر المهتمة عادة بالحريات وبفلسطين (اتحاد الشغل، المحامون، ورابطة حقوق الانسان)، فمهدت الطريق للفضاء السياسي الحزبي والحكومي كي يتحرر قليلا من اكراهاته وحساباته. وذكرت ان شيئا ما وقع في البلاد اسمه ثورة، وان الخطاب والسلوك ورد الفعل يجب ان يتناسب مع هذه الحقيقة.
6. دم الشهادة الجديد الطري المسكوب من اجل قدس الأقداس وأنبل القضايا (فلسطين)، يعيد التذكير بالدم المسكوب من اجل الحرية والكرامة. تمتزج الدماء لتعيد احياء وصياغة مشروع الثورة، ولتذكر انه لا ديمقراطية مستقرة، ولا تنمية مستقلة دون افق وحدوي، وانه لا افق وحدوي دون تحرير فلسطين. هذا درس السياسة. اما درس الاخلاق، فنصه ان الثورة ضد المظالم، ولا ظلم اليوم اقسى مما يتعرض له الفلسطينيون.
7. للشهيد مقامه الأعلى، وجزاؤه الأوفى في الجنة
وللشهيد ايضا جزاؤه في الدنيا. فهؤلاء الذين اذا حضروا لم يعرفوا، واذا غابوا لم يفتقدوا يعطوننا درسهم الاخير:
الدماء المباركة تعيد سبك وحدتنا. والدماء المباركة تعيد توجيه بوصلتنا.
https://www.youtube.com/watch?v=Ud_9m6-D46I