ما قام به الشهيد يعتبر إنجازا علميا غير مسبوق
مختار صادق
استشهاد المهندس الطيار محمد الزواري خلف العديد من الأسئلة وعلى جميع الأصعدة سواء السياسية منها أو الأمنية أو الفكرية أو غيرها. وقد تناولت صفحات الفايسبوك ووسائل الإعلام هذه المسائل بالتحقيق والتدقيق بعضها مصيب وكثير منها تشوبه الحسابات. سأركّز هنا على الجانب العلمي للمسألة بحكم قربي من اختصاص الشهيد.
بداية وجب التنويه أن ما قام به الشهيد يعتبر إنجازا علميا غير مسبوق فالرجل بإمكانيات بسيطة وببنية مهترئة تفتقد لأدنى مقومات بحث علمي جاد استطاع أن يصنع الفارق ويقضّ مضجع اسرائيل على بعد آلاف الأميال. الحقيقة أن هندسة الطائرات بدون طيار تتطلب الكثير من الصبر والمثابرة وإجراء التجارب في ميدان حساس يتطلب معرفة شاملة بعلوم الطيران من أبجديات الإقلاع والتحليق والهبوط إلى تكنولوجيا التحكم عن بعد بكل تحدياتها مثل التشفير واختيار الذبذبات المناسبة مرورا بالاستعداد لحدوث خلل ما أثناء الطيران. نجاح الشهيد بإمكانيات بسيطة في المرور من النظري إلى التطبيقي الذي عادة ما يتطلب اعتمادات مادية هائلة وموارد بشرية واسعة لدليل ساطع على نبوغه هو وعلى قدرة العقل التونسي والعربي عموما على الإبداع إذا توفر الحد الأدنى.
أظن أن الذي صنع الفارق في حالة الشهيد محمد الزواري هما بالأساس شيئان اثنان. أولا وجود إرادة فردية فولاذية وتصميم حديدي على النجاح وهذا متأت من إيمان الشهيد بقضيته مما جعله واليأس خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا. وهذه نقطة في غاية الأهمية لأن المخترع إذا أحسّ بحاجة المجتمع والأمة لمجهوده وتثمينهم له فإنه بالتأكيد سيبدع حتى وإن كانت الامكانيات محدودة وقديما قيل “الحاجة أم الأختراع”. أذكر أنه في بداية عهدي بالعمل في هذا الميدان كان يشتغل معنا بنفس الشركة مهندس أمريكي قارب على سن التقاعد وكان قد عهد له بتصميم إحدى القطع الرئيسية لطائرة حربية في وقت ضيق جدا فكان أول من يأتي وآخر من يغادر إلى ساعات متأخرة من الليل وقد بلغ به الإجهاد يوما أن سقط مغشيا عليه أمام الجميع، عند قرب الموعد وعند التيقن أنه لن يكون بإمكانه إتمام التصميم في الوقت المحدّد واصل إلى آخر يوم في الرزنامة العمل على نفس الوتيرة! ولما سألته عن هذا الإصرار على العمل بكل هذا المجهود مع علمه أنه لن يتم التصميم حسب الوقت المحدّد أجابني بكلمات لا زلت أذكرها إلى اليوم حيث قال “أعلم ذلك ولكن أودّ دائما أن أبذل ما في وسعي”. هكذا إذن فالأيمان بقضية ما يدفع الإنسان لبذل ما في وسعه ولصنع المعجزات حتى!
المسألة الثانية التي أظنّها لعبت دورا هاما في نجاح الشهيد في التغلْب على المستحيل هي تكوينه العلمي وزاده المعرفي المحترم فالرّجل كان خرّيج الجامعة التونسية في فترتها الذهبية أي في ثمانينات القرن الماضي عندما كان التعليم على قدر عال من الحرفية أما اليوم وبعد تناوب “الإصلاحات” عليه فقد يكون الأمر الأكثر استعجالا هو إعادة إصلاح المنظومة التربوية والجامعية من طرف أهل الاختصاص بعيدا عن التجاذبات السياسيّة (تجفيف ينابيع التديّن!) والحلول الشعبوية (الإنقاص من الموادّ العلمية وتعويضها بالرقص!).
حادثة اغتيال الشهيد هذه يجب أن لا تمر دون استغلالها على أكمل وجه فقد أنتجت حالة من الالتفاف المجتمعي والزخم الشعبي في أجواء مشابهة لأجواء الثورة في بدايتها عندما كان الحس الوطني عاليا وذلك بتشجيع المخترعين وتوفير الأجواء الملائمة لهم. ولئن كان الوضع الإنتقالي للبلاد إبان الأيام الأولى للثورة صعبا بكل المقاييس فإن الفترة الحالية من الإستقرار النسبي للدولة تُعدّ فرصة مواتية للحكومة لتشجيع الإختراعات والمبادرات في الميادين العلمية بجميع أصنافها.