من كواليس الجلسة الأخيرة للضّحايا
نضال السالمي
منذ ليلتين كان لي شرف الحضور في الجلسة الأخيرة لهيئة الحقيقة والكرامة.. حيث قابلت الكثير من روائع البشر الّذين تعارفنا على الفايسبوك من زمان لكن لم تواتي الفرصة مطلقا لنلتقي في الواقع المباشر..
كنت سعيدا جدّا بالحظوة الّتي وجدتها عند الكثيرين.. وقد آكتشفتُ مرّة أخرى أنّ إسمي صار معروفا لدى كثير من الدّوائر حتّى لدى بعض المشاهير ممّن ليسوا أصدقائي على الفايسبوك.. وهو أمر لا يريحُني بصدق.. والقريبين منّي يعرفون ذلك جيّدا.. فالأضواء لا تلائمني إطلاقا بل أقوم دوما بمجهود للإفلاتِ منها..
سمير ديلو الّذي أكّد معرفته بي.. كنت سعيدا بلقائه.. لكن الأهمّ منه بالتّأكيد هو سعادتي العارمة بلقاء أمّه الّتي تظهر دوما بجانبه.. وأمّه هذه إمرأة رائعة لا يراها أحد في العالم إلّا وأحبّها وشعر إزاءها بشيء من الإكبار والمودّة العميقة..
لن أتكلّم عن كلّ شيء… فقط بودّي التّنويه بحسن التّنظيم.. روعة الإستقبال.. بالأخلاق العالية للمشرفين على سير الأمور وخصوصا من السّادة والسيّدات الأطباء والأخصّائيّين النفسيّين.. في عنايتهم المذهلة بالضحايا..
بسمة البلعي هي النجمة الحقيقية في عالم العدالة الإنتقالية.. الجميع يعرفها.. الجميع يعاملها برقّة بالغة.. الجميع يطلبونها من أجل الصور والحديث.. لقد غزت جميع القلوب من كل الأطياف.. لكنّها آختارت بكل المحبة والأخوّة أن تجلس بجانبي حيث بكينا سويّا وتبادلنا المناديل لمسح دموعنا.. وكانت تهمس في أذني لتعرّفني بكل الناس والكواليس والضحايا والمسؤولين : إنّها من كبار العارفين بكل شؤون الضحايا ومسار العدالة.
ختاما.. ثلاثة أشياء جلبت انتباهي عميقا وأثّرت بي وهي ربما من الأمور التي لا تظهر على الشّاشة :
1. في بداية كلام ذاك الرجل الرائع من تالة.. الّذي تكلّم بنفس ثوري أفضل من أعظم الثوّار.. في بداية حديثه آنفجر أبنه المتبقّي على قيد الحياة ببكاء موجع وكان يجلس في الصفّ الأوّل غير بعيدٍ عنّي.. صدّقوني خفتُ كثيرا أن تحدث فوضى ما.. لأنّه بدأ يأخذ في الإنهيار من شدّة البكاء لكن المختصّين النفسيّين هرعوا إليه وأخذوا يواسونه حتّى هدأت روحه قليلا.. وكم بكى.. كم بكى.. وكم أبكانا هو وأباه.. الأب نفسه كان مذهلا وكاد أن ينهار.. لا أعلم إن كنتم قد آنتبهتم أنّه في نصف مداخلته جاء رجل من المختصّين وجلس بجانبه وهمس له بكلمات ليهدّأ من روعه.
2. أثناء مداخلة حميدة العجنقي.. المداخلة الأخيرة الّتي أبهرت الحضور وأدخلت الناس في عوالم أخرى للنّحيب.. حدثت اللحظة الأكثر مأساوية في السهرة كلّها.. حين بدأت حميدة في وصف كيف حاول أحد الجلادين آغتصابها ونزع جزء من ملابسها.. آنهارت بجانبي ساعتها رائعة الدّهر.. فيروز المعاناة بسمة البلعي وأخذت تبكي بصوت مرتفع ثم خرجت مسرعة خارج القاعة ليلحق بها الأخصّائيون لتهدئتها.. في تلك اللحظات تحوّلت أنظار الجميع إلى بسمة وكان ثمّة نحيب في كل مكان من القاعة.. لا أعلم إن كانت الكاميرا قد أشارت لذلك أم لا..
3. شعرت عميقا بالخوف على الضحايا.. أن لا يؤدّي لا قدّر الله هذا المسار إلى إنصافهم.. وقد لامست ذلك عند بعضهم.. فرغم سعادتهم العارمة بالهيئة التي تُعتبرُ آخر ضوء في نفق طويل من اليأس والمعاناة.. ورغم معاملة الهيئة لهم بأروع أساليب العناية والمحبة.. إلّا أنّ في نفوسهم خوفا ما.. أن يقع لهم ما وقع سابقا مع كثير من الجمعيّات الّتي آستثمرت في معاناتهم ثمّ خذلتهم وتركتهم في الفضاء الرحب للضياع والإحباط..
لماذا أدعوكم دوما لزيارة الضحايا في كل مكان ؟؟.. لتعرفوا كم هم رائعون وجديرون بكل المحبة والإنصاف وأنّ قضاياهم في اعتقادي هي أسمى القضايا على الإطلاق.
— ختاما عندي صورة سأنشرها الليلة.. صورة عفويّة آلتقطها لنا أحد الأصدقاء أثناء حديثي إثر نهاية الحصّة مع أعجوبة الزمان وسيّدة هذا الوطن.. الرائعة سهام بن سدرين.