في ذكرى 17 ديسمبر : من أخبار الباطوار
أحمد الغيلوفي
سيداتي، سادتي، لقد ترددتُ كثيرا قبل قول ما سأقوله، ولم يخرجني من تردّدي الطّويل غير أمرين: الإصغاء إلى أصوات الضّحايا ورؤية وجوههم التي حُفرت عليها العذابات من جهة أولى، ومشاهدة المصفّقين للهلوكوست الذين حررهم الشّعب من الذُّل والمسكنة، يشكّكون في روايات الضّحايا من جهة ثانية. فلولا محنة الضّحايا وتنكّر المتعنّتين لما شعُرتُ بأنّ الامتناع عن الشّهادة خيانة لأناس لم أقاسمهم الانتماء الإيديولوجيّ يوما لكنّي قاسمتهم المحنة أيّاما كأنّها سنوات.
..كان يوما من ايام شهر سبتمبر، كنتُ بالمبيت الجامعي بمنوبة، أستعدّ لامتحان سبتمبر. كانت سنتي الأولى بالجامعة. وكُنتُ مُقبلا على الحياة، فرحا بنفسي مزهُوّ بها، كنتُ أدرسُ الفلسفة فتحدّثني النفسُ الكذوب: “أنت أكثر النّاس ثقافةً في منطقة السّاحل والصّحراء…” وكان حديثها ينطلي عليّ. أذكر جيّدا أنّ الطقس كان حارا يومها، وكنت ألبس “شورط” مُستلقيا على “منشفة”، منغمسا في قراءة كتاب “الاصول الخمس” للقاضي عبد الجبّار… حوالي السّاعة الواحدة ليلا تقريبا، جُعت، وضعتُ “بريز” الكانون الكهربائي في” الضّوء”، لأطبخ عجّة، المُساند الرّسمي للطلبة الزّواولة… دقّ الباب، فتحت: فوجئت بعنصر من الدّاخلية يرتدي لباسا مُرقّطا: أنت فلان؟ “أنا فلان” “البس دبشك”. خاطبني بأدب شديد، ويشهدُ الله أنّي لمستُ في عينيه عطفا وحسرة. دخل كلبهُ الي الغرفة فتفحّصها وخرج. لبستُ ثيابي وخرجتُ معه… كان في السيّارة أربعة من زملائه… صاحبوني إلى مركز “وادي الليل”، ومنه دخلتُ ليل النّظام البهيم… جاءني “عمّك عامر” ووضع أمامي كُتبا وأغراضا ليست لي وبدأ يسألني عنها قطعة قطعة، ثم أخذ دواءً كنت أستعمله لمعدتي “ما هذا؟” “دواء، عندي أعصاب في المعدة”. “وصُرمك يوجع فيك؟” سكتُّ فلطمني “وصرمك يوجع فيك؟” قلت “لا”. “عندما أسالك أجب وعندما آمرك أطع”… بدأتُ أفهم أنّني أنحدرُ إلي عالم سُفليّ مُظلم يفقدُ فيه الإنسان إرادته وكرامة ويضيع فيه المعنى والقيمة، فيصبح الإنسان شيئا. عند الفجر جاءت سيارة أخذتني صحبة شخص آخر إلى مكان ما زلتُ أجهله حتى هذه السّاعة.
… إنّه الفجر، شُقة ذات طابق واحد، يرتفعُ منها الصّراخ والأنين في هذه السّاعات الأولى للصّبح. استقبلتني صرخات تقشعرُّ لها الأبدان، كان يتردد صداها في الجوار في ذلك الفجر الخريفيّ الدّامي.. “ارفع سروالك فوق الرّكبتين”، رفعتُ، اجلس وارفع يديك، وضع وجهك هنا بالضّبط”. الـ”هنا بالضّبط كان بابا حديديّا به كُوّة صغيرة تخرجُ منها رائحة أشبه بالجّيفة. جلستُ وإمتثلتُ. عندما ذهب الآمر النّاهي حرّكتُ رأسي قليلا فرأيتُ في الغرفة على يساري شابا مُعلّقا في وضع الـ”روتي”، كان عاريا تماما فاقدا وعيه، وكانوا مُنهمكين في التّحقيق مع شخص آخر… كنتُ ارتعدُ خوفا، كانت معدتي تعتصرني اعتصارا، ليس بسبب الجوع. بقيت على تلك الحال حتى الظُهر. لاحقا جاء ضابط يبدو أنّه رفيع المنزلة (بعد خروجي بسنوات رأيتُ صورته في بعض الجرائد)، أمر ونهى وأعطى تعليمات. سأله بعضهم “سيدي هذا مُعلّق منذ البارحة، نخشى أن يموت” “خليه يموت، نكرهم”.
… خارت قواي ولم أعد أقدر على رفع يديّ. كان الوضع الذي استهنت به في البداية مُدمّرا، كلّما أنزلت يداي “ناكل بيه صافي”، فأعيدهما، لم تعد ركبتاي قادرتين على رفع جسمي. قبل الغروب، فُتح باب الحديد وركلني أحدهم إلى الدّاخل ثمّ أغلق الباب… كان الظّلام دامسا، ثمّ حملتني أشباح إلى الدّاخل وأسندوا ظهري إلى الحائط، أعطوني قليلا من الماء (كانوا يقدّمون قارورة واحدة في اليوم، لقرابة عشرين سجينا)… واسوني وشجّعوني وسألوني: “علاش جيت؟” “هل انت اخ؟” قلت: “لا أعلم لماذا أتوا بي، ولستُ إسلاميا”، فسكتوا خشية أن أكون بوليسا… (لو كنت بوليسا لقلت لهم بأنّني إسلامي، ولكنّنا جميعا قليلو خبرة) تعرّفنا على بعضنا : طلبة، أساتذة، تجّار، وفينا “سوكارجي” كلّما سكر يبات قصد بيت أخته خوفا من والده. أُقتيد إلى هناك بسبب زوج أخته الإسلاميّ، داهموه فأتوا بهما معا. كان يبكي ويقول “يا جماعة أنا سوكارجي”. معنا رجل في السّتين، يعمل بنّاء، مازلتُ أذكُر كبّوسه الأحمر، اكترى اللّوح من شخص تبيّن أنّه إسلامي، كان يبكي ويقول: “أنا خدّام حزام لا دخل لي بهذه الأمور”.. أخذ نصيبه من كلّ شيئ… قلتُ: “نحب نمشي لبيت الرّاحة”، فأشاروا إلى زاوية في الغرفة “هُناك”… ذهبتُ. والتفتوا هم إلى الحائط… الضّرورات تُبيحُ المحظورات والظّلام ستّار العيوب… البراز فائض على مساحة كبيرة من الغرفة، وعندما نذهب “هناك” نخطوا على البول والبراز..
… فُتح الباب، “ايجو هزّوا الخرا متاعكم”، ذهب شخصان، ثم عادوا بكومة من اللّحم، وضعناها في زاوية، وأوسدناها “زاورة”، سكبنا شيئا من الماء في فمه… كومة من اللّحم والعظام لا حراك بها… ثم فُتح الباب: “ضو معيز”، “حاضر “ايجا”… ذهب ضو، وشيعناه بأعيننا… صراخ، ضرب، توسّل، تأوّهات مُحتضر… في اليوم التّالي: “جندوبي” ثمّ “زيتوني”…ثم ذهبنا لنعود بضو… بعد يومين، ثم لنعود بـ”الزيتوني” (ليس هو الزيتوني الذي وجد ميتا في مارث وأدّعوا بأنّ سيّارة صدمته). أحيانا تتوقّف الآلة الجهنميّة ثلاثة أو أربعة أيّام فيسود هدوء قاتل ثمّ ما تلبث أن تعود إلى الدّوران… باطوار.
لم يُعذّبني شيئ مثل انتظاري لدوري، كنتُ أعُدُّ من هم قبلي وكانوا يتناقصون بشكل مؤلم وتقتربُ ساعتي اكثر… يعذّبني “زميلي” الإسلامي عندما يعود كومة من اللّحم، ويستمر في الأنين أيّاما، عندما يتعبُ من النّوم على جنب يهمس لنا: ابدلوني على الجنب الآخر، أينما وضعت يدك يصرخ، يطلبُ منّا أن نحمله إلى “مكان” التّغوّط، فنحتمله وندخل تلك “الطّبعة الخرائيّة”، نُمسكه كي لا يسقط حتى يقضي حاجته، ثم نعود به… إنّه الإنسان وقد أرغم على الانحدار الي ما دون الحيوان… في ذلك القبو المُظلم والبارد والوسخ، غاب كلّ شيئ بيننا ولم يبق إلاّ الإنسان: السّوكارجي والبنّاء والإسلامي والقومي، الطّالب والعامل والصّايع. كُنّا نعطف على بعضنا بشكل حادّ، وبخاصّة على من أزّفت ساعته: كنّا نحدّثه ونواسيه وكأنّه ذاهب إلى الدّار الأخرى. أمّا من يعود من المسلخ فإنّنا نقول له “هانت الصّعيب تعدّى”… أمّا “الجندوبي” فلم يعد، لستُ ادري، هل نقلوه إلى مكان آخر؟ ربما… كلّ ما أذكره هو أنّ تعذيبه انتهى بجلبة وتلاسن بين الجلاّدين وسبّ الجلالة وتحميل للمسؤولية وتفصّي منها… ثم ساد هدوء استمرّ يومين أو ثلاثة.. ولم يعد الجندوبي.
شهر، شهر ونصف؟ لستُ ادري، ثم نادى المُنادي “أحمد غيلوفي”… ربّت أحد “زملائي” على كتفي، وسمعتُ همسا “ربّي معاك”… ونهضت: غرفة متوسّطة الحجم، بها مكتب قرب الشبّاك… صدمني ضوء النّهار بشكل لم أستطع فيه الرّؤية في البداية… جلست على الكرسي، على يساري إنسان عار يتأرجح بين السّماء والأرض، وتحته بركة من القيئ والدم، لحم ذراعيه تحوّل إلى كومة من لحم أزرق وأسود فوق كتفيه، لحم ساقيه تحول أيضا إلى كومة فوق ركبتيه، يضربه الجلاّد الأوّل حتى “يدهش” فيعوّضه الثّاني، يعبث أحدهم بخصيتيه وشرجه… قول “أنا ميبون” “أنا ميبون” “سب ربّي” “….” “قول “أمي قحبة”… يُنزلونه أحيانا ليضعوا قدميه في الماء، ثم يضربونه بأسلاك حديديّة رقيقة..
ثم كانت صدمتي قويّة عندما جاء رجل أنيق، قد يكون في الأربعين من عمره، بميدعته البيضاء وسمّاعته الطبيّة. رأيت في عينيه ذلاّ ومهانة وحقارة لم أصادفها في حياتي، بدا لي مرتجفا أكثر من الضحيّة المُعلّق بين السّماء والارض. قالوا له “شوف الخراء يموتلناش؟”. ففحص عينيه ثمّ دقّات قلبه، نظرتُ إليه نظرة رجاء متوسّلا: “يزيه”… ال”…” قال لهم: “مازال يتحمّل” “راهوا على مسؤوليتك” “على مسؤوليتي”… كرهت الأطبّاء…أعرفُ أنّي مُخطئ في هذا التّعميم ولكن ذلك ما حدث.
– “احمد غيلوفي”… “نعم” “بوك هو فلان خوك يعمل كذا”… “نعم”. “قريبك فلان صديق فلتان”… “نعم.. نعم”. “أنت قومي..؟” “نعم”. “الاجتماع الذي حصل في قبلي بين قياداتكم وقيادات الاتجاه الاسلامي علاش ؟ آش تفاهمتوا؟” “أوّلا أنا مانيش قيادي، ثمّ لا علم لي بالأمر” (وبالفعل لست قياديّا ولا علم لي بالأمر، بعد خروجي سوف أفهم القصة)… ضرب، ضرب، في كلّ مكان، بالعصا وباليد وبالرّجل.. “كيف نكلمك هبّط عينيك لوطه، ما تشوفنيش في عينيّ، يمشيش في بالك أنا موش قاري؟ أنا اجازة في القانون”… ومن يومها كرهت جماعة القانون… أعرف أنّي مُخطئ في هذا التّعميم ولكن ذلك ما حصل.. ثم نفس السّؤال فنفس الإجابة (لأنّي بالفعل لا قيادي و لا علم لي بالامر).. “باهي، أنت قريب الجنرال (…)؟” (من جماعة براكة الساحل).. “ماذا تعرف عنه؟” “لا شيئ، قابلته مرة واحدة في حياتي، كلّ ما أعرفه أنّه درس في أمريكا ويسكن في تونس).. أكلتني العصا حتى تعب هو وسُلختُ أنا.. تعب من ضربي، جلس على كرسيّ وأخرج تُفّاحة وقال لي -وكأنّه يريد أن يرميها لي- “هيّا شد”، فتحت يديّ فوضعها في فمه وقهقه، ثم أعاد الكرة فلم أفتح يديّ، انهال على ضربا، “افتح يديك يعني افتح يديك”.. استمرّ الأمر كذلك، يأكل هو وأفتح أنا يديّ إلى أن أكمل التفّاحة.
..تهرّست ولكنّي لم أُسق إلى التعذيب المنهجي، أي الرّوتي وما يلزمها. لستُ صيدا ثمينا، طالب زوّالي، التقوا به في مكان نحس في ساعة نحس.. أحسن سامي براهم عندما فرّق بين التّعذيب الهمجيّ والتّعذيب المنهجيّ (سمّاه العقلاني) لماذا لم يُعذّبوني تعذيبا “عقلانيا”؟ هل كان الجهاز الأمني مُنهمكا في سلخ الإسلاميين فخشوا أن تستغلّ بعض القوى السياسيّة الفرصة وتُهدّد النّظام فأرادوا ترهيبهم؟ (في تلك الفترة كان وزن القوميّين في الجامعة قريب من وزن الإسلاميّين)… هل كانت تلك التّهمة مجرّد تعلّة لإرهاب باقي القوى السياسيّة؟ ربّما، هل حصل الاجتماع فعلا بين أجنحة سريّة ولكنّهم لا يريدون فتح حرب أوسع على الجميع، وأرجؤوا البقية إلى حين؟ أم أنّ لقبي الذي أشترك فيه مع بعض رؤوس الإسلاميّين ومع جنرال لا اعرفه؟… ربّما، إنّها آلة تدور بهيستيريا وعماء، وتخبطُ خبط عشواء.
استمرّ الأمر ساعات طويلة ثم قال لهم “الرياحي” “رجّعُوا ربه”. أرجعوني. نسوني هناك واستمرّوا في نهش الاسلاميين.. ثمّ هدأت ضباع الظّلام، يمكن أسبوعين… فُتح الباب: “أحمد غيلوفي” “حاضر” “إيجا”، ذهبتُ إليهم. لقد كنت فرحا بسبب رؤية الشّمس لكنّي كنت فزعا من الالتقاء بتلك الكائنات الضّارية مرّة أخرى. فمن يدري ما الذي يمكن ان يدور في رؤسهم؟ لقد كانت مصائرنا وأقدارنا وأبداننا في قبضة هؤلاء المُسوخ.. كنتُ أخاف أن أُخصى أو أن أُغتصب… فلم يكن لديهم أيّ مانع أن يقوموا بكلّ الفظاعات الممكنة… أعطاني أحدهم حذائي وخيوطه وسبطة السّروال.. “انتظر هناك سوف يأتي سي الرياحي يُعطيك بطاقة التّعريف”، انتظرتُ… أثناء انتظاري جاءت سيدة مُسنّة تلبس “سفساري” وتنتعلُ “شلاكة” رثّة وتحمل قفّة، استقبلها عون قائلا “لمن هذا؟” قالت “للجندوبي” “وصل”.. ثمّ غادرت ففتح القفّة وبدا يأكل… بصقتُ على وجهه بداخلي، أشبعتهُ بُصاقا وشتما وركلا.. بداخلي.. كنتُ أضربهُ وأصرخُ “يا ابن الفاعلة، كلّ يوم تأتي العجوز بطعام لابنها فتأكلونه ولا تخبرونها الحقيقة أنّه غير موجود؟ أو نُقل من هنا أو مات؟”… وأحسستُ أنّ كُرة سوداء وحمراء قانية بدأت تتشكّلُ في صدري، كرة شبيهة بعضلات الذّراع عندما تتكوّمُ على الكتف من أثر القيد.. إنّها كُرة الحقد.. وبدأ عقلي يُصوّرُ لي عجوزا فقيرة ورثّة تقومُ في الصّباح، تنتعلُ “شلاكه” مُتهالكة وتجوب الأسواق لتشتري ما يلزم لإعداد غذاء ابنها… وتصوّرتها تضعُ قطع اللّحم في الآنية وتحدّثُ نفسها “هذه له وهذه لمن معه”، تتركُ قطعة لها، تتردّدُ قليلا ثم تُظيفها إلى الآنية قائلة لنفسها: “خلّي ياكلوا الدّنيا باردة”، ثم تصوّرتها تلبسُ سفساريها وتتنقّلُ من حافلة صفراء إلى أخرى حتى تصل لنا.. تُسلّمُ قُفّة اليوم إلى الضّابط وتأخذ قفّة الأمس… عندما تصوّرتُ أنّ ابنها قد يكون مات منذ شهر، عندما رأيتُ الضّابط يأكل طعاما من زقّوم وتُفّاحا من يحميم، أحسستُ بأنّ تلك الكرة الزّرقاء والحمراء القانية تزداد تضخّما في صدري… ثم جاء “الرياحي”، رفعتُ فيه عينيّ : رجل مُتوسّط الطّول، يميلُ إلى الحُمْرَة.. هو أقرب إلى الجمال، تراهُ فلا يُداخلك أيّ شكّ في أنّهُ وديع، ولكن العينان تخونُ كلّ شيىء: لم تكن عيناه إنسانيّتين… التقيته صدفة بعد سنين في حي ابن خلدون، تلاقت الأعين ومرّ كلانا في حال سبيله… أعطاني بطاقة التّعريف، عندما هممتُ بإمساكها أمسك بطرفها الآخر، نظر إليّ وقال “انت لم تدخل هنا، لم تر شيئا، لم تسمع شيئا.. واضح؟ “واضح..” واضح؟” “واضح”.. وأنا أخرجُ من الباب رفعتُ عينيّ في الجوار : البطوار كان “فيلاّ” عادية تُحيطُ بها عمارات صفراء قديمة يسكنها بشر مثلنا… يسمعون صراخنا ليلا ونهارا وينامون ملء جفونهم عن صراخنا…يا إلهي كيف يأكل الإنسان أو ينام أو يمارس الحب وهو يسمع أنين أخيه الإنسان وصراخه؟ حتى الحيوانات عندما تهاجم الضّواري ابن جنسها تهبُّ لنجدته؟ لماذا وضعوها قي قلب حي شعبي؟ ليرعبوا الناس جميعا؟ ربما… وضعوا رأسي في الاسفل وسارت السيارة… ثم توقّفت، رموني في مكان وذهبوا، دون أن ينبسوا بكلمة، كأنّهم يلقون “شكارة” زبالة.. بقيت واقفا أنظر إلى السيّارات والمارّة. كنتُ مُلتحيا، أشعث وسخا جدّا ونتنا جدّا، كانت أظفاري سوداء طويلة. كان الناس يسيرون بشكل عادي، دون أوامر، دون صراخ، دون ضرب، مرّ بي “كوبل” يمسكان بعضهما البعض ويسيران بشكل عادي. تبعتهما بعينيّ حتى اختفيا. أيعلمان أنّهما يسيران فوق العالم المُظلم؟.. في الشارع رأيت سيّارات وحافلات ولافتات وصورا وشعارات وسمعتُ أغانيا… أيّهما العالم الحقيقيّ وأيّهما العالم المُزيّف؟ أين تظهر حقيقة الإنسان بلا زيف وبلا أقنعة؟ في العالم العُلوي، عالم النّور والشّمس أم في العالم السفلي، عالم الظُّلمة والبرد؟
… ثمّ لاح الصّبحُ، ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمها صبحُ 17 ديسمبر. ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمها رؤيتهُ يتلعثمُ ويغُصُّ بالكلمات، رأيته شاحب الوجه يُصارعُ كي يبلع ريقه… ثم فرّ. ورأيتهم يفرُّون من وجه شعبهم يحسبون كلّ صرخة عليهم، ورأيتُ يد التّاريخ الباردة والطّويلة تقلبُ صفحة من صفحات تونس. طُوبى لمن فهم ذلك، وسمعتُ الشاعر السوداني محمد الفيتوري
يصدحُ في بعض الزّوايا:
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
واذا الفجر جناحان يرُفان عليك
واذا الحزن الذي كحّل تلك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب.. يابلادي
أصبح الصبح
وها نحن مع النور التقينا
التقى جيل البطولات
بجيل التضحيات
التقى كل شهيد
قهر الظلم ومات
بشهيد لم يزل يبذر في الأرض
بذور الذكريات