غازي الجريبي: سيرة ذاتية لوزير غير محايد !
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
لمن لا يعرف السيد غازي الجريبي: هو في الاصل قاض تولى قبل الثورة رئاسة المحكمة الادارية لمدة اربع سنوات (بداية من 2007) ولم يشذ بالطبع -في طريقة توليه لهذا الموقع- عن غيره من الرؤساء خصوصا ان التسمية في هذه الوظيفة العليا كانت تخضع لشروط ادارية وحسب المعايير التي كان يضعها النظام السابق.
في بداية الثورة لم يتساءل الكثير عن ماضي الرجل الذي احتفظ بمركزه في الاشهر الاولى الى حين اقالته بصفة مفاجئة في اواخر سنة 2011 على عهد تولي السيد الباجي قائد السبسي رئاسة الحكومة. وقد علمت وقتها بحكم رئاستي لجمعية القضاة التونسيين بعض الظروف الحافة باقالته والتي خلفت لدى عدد من قضاة المحكمة الادارية استياء كبيرا يقابله ارتياح بنفس القدر لدى عدد من زملائهم.
ورغم اني لم اتردد مع بقية المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين في التنديد باقالته بسبب ما رافق ذلك من استهانة بموقعه ومساس باعتباره الا ان سلطة القرار وقتها (التي كانت بيد السيد الباجي قائد السبسي) قد تمسكت بان السيد غازي الجريبي هو في الاخير من “رموز النظام السابق”! وقد لعب دورا سلبيا في القضية التي رفعها السيد مصطفى بن جعفر طعنا في القرار القاضي برفض ترشحه للانتخابات الرئاسية سنة 2009.
واضافة لذلك فان تعويضه بالسيدة روضة المشيشي (التي الحقها السيد الباجي قائد السبسي بديوانه عند توليه الرئاسة) يندرج -حسب تصريح من اقاله- في سياق التداول الطبيعي على المسؤوليات بعد الثورة. لكن تسمية السيدة روضة المشيشي مكانه لم تخل من جدل مبعثه ان زوجة السيد رضا بلحاج (وكان من اشد المقربين للسيد قائد السبسي) هي صديقة السيدة المشيشي وان ذلك كان حاسما في تسميتها.
لكن مهما كانت الدوافع لتسمية هذه وازاحة ذاك فقد ترتب عن تغيير الرئاسة انقسام في صفوف قضاة المحكمة الادارية لم تهدا مظاهره الى الان. ودون الدخول في تفاصيل هذا الخلاف وتداعياته فمن الثابت ان انقسام تمثيلية القضاة بتلك المحكمة (وهي محكمة صغيرة لا تعد اكثر من 150 قاضيا تقريبا) ونشاة اتحاد القضاة الاداريين -القريب من وزير العدل الحالي- في مواجهة جمعية القضاة التونسيين (ومجلسها القطاعي) هي بلا شك من التاثيرات الجوهرية التي ترتبت عن انقسام القضاة الاداريين (باستثناء من بقي محايدا) الى شقين تبعا للخلافات التي كانت بين الرئيسين السابقين!.
ويبدو اكيدا ان السيد غازي الجريبي الذي استعاد موقعه النافذ بتسميته وزيرا للدفاع في حكومة السيد المهدي جمعة (29 جانفي 2014-26 فيفري 2015) قد اصبح يتمتع بسلطات اوسع منذ توليه في حكومة السيد يوسف الشاهد وزارة العدل بداية من 27 اوت 2016 فضلا عن عناصر اضافية سمحت -على ما يظهر- بتقبله دون جدل في الوزارة الجديدة كتجربته السابقة وصفته كقاض والانطباع الحاصل لعدد من المتابعين بانه من صنف الوزراء “المحايدين”(او المستقلين)!.
ولكن يبدو ان هذه الصورة “المثالية” التقليدية التي وجدت من يروج لها بدات تتبدد بعد فترة محدودة على راس وزارة العدل لم تتجاوز 3 اشهر ونصف (تقريبا)، ويمكن ان نجد في “سيرة” الوزير الاخيرة ما يبعث على هذا الاعتقاد :
• لمن لا يعرف ايضا : وزير العدل ما زال -رغم احداث الهيئة الوقتية للقضاء العدلي- يحتفظ بامتيازات ادارية على جميع المحاكم وكافة القضاة والمؤسسات القضائية الملحقة بالوزارة، فهو مبدئيا مازال على راس سلطة الاشراف بالنسبة للمحاكم (وبالتبعية للقضاة) اضافة الى خضوع قضاة النيابة العمومية -حسب التشريع الحالى المنافي للدستور- الى سلطة وزير العدل.
ولهذا علاقة بالوضع الخصوصي الذي تعرفه المحكمة الابتدائية بتونس منذ تولي السيد غازي الجريبي وزارة العدل، فقد شاءت الصدف ان تكون شقيقة الوزير القاضية ثريا الجريبي على راس تلك المحكمة قبل توليه وزارة العدل بموجب تسميتها بداية من 16 سبتمبر الفارط في اطار الحركة القضائية التي تعدها الهيئة الوقتية للقضاء العدلي. ودون الدخول في افتراضات يمكن استنتاجها بسهولة، فمن الواضح ان وضعا كهذا من شانه ان يولد تضاربا واضحا للمصالح من جانب الوزير وكذلك من جانب شقيقته بصفتها تلك ويفتح الباب لشبهات “جائزة” تتعلق باستقلالية القضاء وبالسلطات غير المبررة لوزير العدل. فرغم اننا ننزه القاضية عن الخضوع للتاثيرات “الشخصية” او “العائلية” الا ان وضعا كهذا لا يمكن ان يدوم خصوصا اذا علمنا ان المحكمة الابتدائية بتونس هي اكبر المحاكم على الاطلاق وتضم القطب القضائي لمكافحة الارهاب والقطب القضائي الاقتصادي والمالي وتنظر فيما يناهر ربع القضايا المنشورة في البلاد وفي اخطر النزاعات واكثرها اهمية. فهل يدرك الوزير ان ذلك يجعله واقعيا في اشراف مباشر على الاشخاص والهياكل والقضايا فيما يتنافي مع مقتضيات الحياد والاستقلالية؟!.
• وفي واقعة مثيرة لا شك ان الكثير قد تابع يوم 30 نوفمبر الفارط ظهور القاضي خالد العياري الرئيس الاول لمحكمة التعقيب ورئيس الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ورئيس الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وذلك في برنامج اذاعي بمحطة خاصة وفي اليوم الاخير لعمله القضائي. وكان ظهوره غير المعهود بقصد الحديث عن القرارات التي صدرت عن الهيئة الوقتية للقضاء العدلي تسديدا للشغورات الحاصلة في الخطط القضائية العليا واستكمالا لتركيبة المجلس الاعلى للقضاء وتاكيدا للدعوات الموجهة لرئيس الحكومة حتى يصادق في الاجال المعقولة على قرارات الترشيح المحالة عليه. واضافة لذلك كشف في نفس الحديث أن “وزير العدل أعلمه بأنّه تم العدول عن التمديد له لأنّ جهة كبيرة في البلاد تدخلت ضد هذا التمديد”.
ولم يكن من المتوقع ان يتدخل السيد غازي الجريبي في ذلك البرنامج لتكذيب الرئيس الاول لمحكمة التعقيب ولا ان نراه -في موقف يبعث على الصدمة!- يتهجم عليه دون أي اعتبار لمركزه قائلا في تعليق على حديثه “أمور افلام، غير مسؤول، خرافات، تصفية حسابات، حوارات فارغة… الخ!.
ولم نكن ندري وقتها ان كان سبب ذلك التشنج يرجع الى ما كشفه القاضي المحترم من حقائق انارة للراي العام او لموقف مسبق من التسميات التي قررتها الهيئة الوقتية للقضاء العدلي؟!.
وبقطع النظر عن مضمون ما صرح به الرئيس الاول لمحكمة التعقيب فقد سبق ان لاحظنا “إن فداحة الردود المتشنجة التي وردت على لسان الوزير تكاد لا تخفي طبيعة علاقاته الشخصية والوظيفية مع سامي القضاة (وأحد الرموز القضائية) فضلا عن التهاون المقصود في تعامل السياسيين -خطابا وممارسة- مع أعضاء الهيئات القضائية!. (انظر مقالنا عن نفس الموضوع تحت عنوان “سيدي الرئيس (خالد العياري) : كل عام وصحتك بخير!– موقع تدوينات بتاريخ 30 نوفمبر2016 – موقع انباء تونس بتاريخ 1 ديسمبر 2016).
• وفي فصل اخر من ممارسات الوزير، اتضح -قولا وممارسة- انه عوض العمل على تذليل الصعوبات لانعقاد اول جلسة للمجلس الاعلى للقضاء طبق القانون سعى الى تاجيج الخلافات بين القضاة وذلك بانحيازه الى بعض افراد منهم (من النقابات وبعض اعضاء المجلس) والاصطدام بالهيئة الوقتية للقضاء العدلي التي تعتبر في الاخير من مكونات سلطة الدولة.
وقد كان من نتائج ذلك اعلان المجلس الوطني لجمعية القضاة التونسيين عن تحركات احتجاجية بتاريخ 17 ديسمبر 2016 (تاخير الجلسات على حالتها، وقفة احتجاجية اما قصر الحكومة، اعتصام انقاذ المجلس الاعلى للقضاء، تفويض المكتب التنفيذي امكانية الدعوة الى اضراب عام).
فرغم ان الهيئة الوقتية للقضاء العدلي قد احالت منذ اواخر نوفمبر 2016 قرارات الترشيح للخطط القضائية العليا (ومن بينها قرار ترشيح الرئيس الاول لمحكمة التعقيب) مراعاة لاختصاص الهيئة واستكمالا لتركيبة المجلس الاعلى للقضاء، فقد راينا ان رئاسة الحكومة -وهي جهة الاختصاص المدعوة للمصادقة على تلك القرارات طبق راي الهيئة- تمتنع الى حد الان عن ذلك وتفوت على الهيئة الوقتية (وكذلك على المجلس الاعلى للقضاء المرتقب) الاجل القانوني الذي من المفروض ان يدعو خلاله رئيس الهيئة الوقتية الى انعقاد اول جلسة للمجلس الاعلى للقضاء.
وزيادة على ذلك -وتعقيدا للوضع- راينا رئيس الجمهورية يدعو في 14 ديسمبر الجاري اعضاء المجلس الاعلى للقضاء -سواء منهم المعينين بالصفة او المنتخبين- لاداء اليمين بقصر قرطاج دون اعتبار للقرارات المحالة على رئيس الحكومة وفي غياب اصحاب الخطط الوظيفية العليا بالقضاء العدلي (وعلى راسهم الرئيس الاول لمحكمة التعقيب).
وفي خضم هذه الخروقات وردت اخبار اكيدة مفادها ان السيد غازي الجريبي قد حاول يوم 14 ديسمير الجاري وبمناسبة اداء اليمين “ترتيب عقد أول اجتماع للمجلس الاعلى للقضاء بالقصر الرئاسي مع ما في ذلك من رمزية التبعية وما ينطوي عليه من مخالفة صريحة للدستور والقانون، لولا أن تصدى له قضاة مستقلون”.
واضافة لذلك رتب وزيرالعدل -بعد ساعة فقط من أداء اليمين بقصر قرطاج- لبعض أعضاء المجلس الاعلى للقضاء اجتماعا خارج أي اطار قانوني بقاعة الدوائر المجتمعة بمحكمة التعقيب “التي ما كان من الممكن أن تطالها يد وزير العدل أو يسمح لنفسه بأن يأذن بفتحها لو تمت تسمية رئيس أول لمحكمة التعقيب!” (راجع الوقائع المتعلقة بذلك في مقال القاضي فوزي المعلاوي عضو الهيئة الوقتية للقضاء العدلي تحت عنوان “ازمة المجلس الاعلى للقضاء بين تدخل وزيرالعدل وقضاة الطابور الخامس – موقع قضاء نيوز بتاريخ 15 ديسمبر 2016).
ويلاحظ ان تلك الممارسات -بما انطوت عليه من مظاهر التدخل والهيمنة السياسية- قد بلغت حدودا غير مقبولة مما اثار احتجاج هيئة دستورية في مستوى الهيئة الوقتية للقضاء العدلي التي اوردت في اخطر بيان لها انها “تستغرب تدخل وزير العدل في مسار تركيز المجلس الأعلى للقضاء بما يتجاوز صلاحياته ويتعارض مع مبدأ الفصل بين السلط، من ذلك دفعه لعقد جلسة لبعض أعضاء المجلس خارج الأطر القانونية، في مقابل غياب أي مسعى جدي من طرفه في توفير المستلزمات المادية واللوجستية لعمل المجلس” (راجع بيان الهيئة المؤرخ في 16 ديسمبر 2016 المنشور بصفحتها الرسمية بالفايسبوك).
فهل يمكن ان نامل في حل قريب لهذه الازمة وان نرى وزير العدل يستعيد صفات الاعتدال والحياد والمسؤولية؟!