غير بعيد على مجلس نوّاب الشعب، وفي الساحة نفسها التي عرفت ما سُمّي باعتصام الرحيل وما تلاه من إسقاط حكومة الترويكا، يعتصم منذ ما يقارب السنة عشراتُ المتعبين ومثقلي الأحمال ممّن شملهم العفو التشريعي العام الذي كان موضوع المرسوم الأول بعد الثورة. ورغم أنّ العفو التشريعي العام كان من أهم مطالب جبهة 18 أكتوبر 2005 التي وحّدت بين بعض القوى اليسارية وبين الإسلاميين في صراعهم ضد نظام المخلوع بن علي، ورغم أن هذه المسألة كانت محل توافق وطني كبير بعد الثورة، فإن وصول النهضة للحكم وتشكيل حكومة الترويكا أعاد الصراع بين العلمانيين والإسلاميين إلى ما قبل 18 أكتوبر بعد أن فرّقتهم نتائج الانتخابات وعودة المكبوت الإيديولوجي الذي حرف الصراع إلى مستوى المقاربة الثقافوية مهيّئا بذلك المناخ العام لعودة المنظومة القديمة باعتبارها “حارسة النمط المجتمعي” وراعية “الاستثناء التونسي”.
بحكم غلبة الاصطفافات الهوويّة والتحيّزات الإيديولوجية على مفردات السجال العام ومآلاته من جهة أولى، وبحكم الوضعية الاقتصادية الحرجة التي تمر بها تونس من جهة ثانية، أصبح موضوع العفو التشريعي العام من أشد المواضيع إثارة للجدل بعد انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011. ورغم أنّ أغلب المعنيين بهذا الملف هم من النهضويين أو من الذين تعاملت معهم المنظومة الأمنية-التجمعية على هذا الأساس، فإنّ سوء إدارة حركة النهضة لهذا الملف في مستوى أبعاده الرمزية – بالإضافة إلى عودة اليساريين إلى التحالف مع المنظومة القديمة دفاعا عن”النمط المجتمعي التونسي” ضد “الخطر الإسلامي”-، كل ذلك جعل الرأي العام يختزل القضية كلها في مستوى التعويضات المادية وتأثيراتها السلبية على التوازنات الهشّة للميزانية.
سنة 2015 أنجزت هيئة الحقيقة والكرامة دراسة حول أولويات المتمتعين بالعفو التشريعي العام. ورغم أنّ 91 في المائة منهم أكدوا على الأولوية المطلقة للتعويض المادي وجبر الضرر، ورغم وجود الأمر الترتيبي المتعلق بصندوق الكرامة ورد الاعتبار المحدث بمقتضى الفصل 93 للقانون عدد 54 لسنة 2013 والمؤرخ في 30 ديسمبر 2013 والمتعلق بقانون المالية لسنة 2014، رغم ذلك كله فإن المئات من المنتفعين بالعفو التشريعي مازالوا يعانون الأمرين لأسباب يتعلق بعضها بالمواقف العدائية للهياكل النقابية (التي كان من المفترض فيها أن تكون للمستضعفين لا عليهم)، ويتعلق البعض الآخر بسلبية الحكومة وركوبها سياسات المماطلة والتسويف خاصة مع الإسلاميين، ولكنّ أهم أسباب استمرار هذه الوضعية الكارثية واللاّإنسانية – وهذا أمر قد يفاجئ الكثيرين- هو هيئة الحقيقة والكرامة ذاتها، وتحديدا رئيستها السيدة سهام بن سدرين.
من الحقائق التي يجهلها الرأي العام أنّ “صندوق الكرامة ورد الاعتبار” -وهو صندوق ذو استقلاية مادية ومعنوية، ووافق المعتصمون على أن يكون تحت رئاسة السيدة سهام بن سدرين بنص القانون- لا تعود أسباب تعطيله إلى الحكومة ولا إلى أجهزتها التنفيذية. فالحكومة التونسية قد قدّمت للهيئة مشروع أمر ترتيبي منذ 2015، وهي مستعدة لحوار ثلاثي مع هيئة الحقيقة والكرامة ومع ممثلي المعتصمين للوصول إلى حل يُرضي جميع الأطراف. ولكنّ التعطيل استمر من جهة رئيسة الهيئة رغم تسلم السيدة علاء بن نجمة عضو مجلس هيئة الحقيقة والكرامة يوم الاثنين 21 نوفمبر 2016 مشروع الأمر الترتيبي لصندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد في صيغته النهائية بعد جلسات تفاوضية بين أعضاء من الهيئة التنفيذية لاعتصام باردو لتفعيل العفو العام وممثلين عن إدارة هيئة الحقيقة والكرامة هم السادة سليم البريقي وعبد العزيز كريم ورفيق جراي.
رغم أنّ كاتب هذا المقال أبعد ما يكون عن الطعن في وطنية السيدة سهام بن سدرين وفي أهليتها للإشرف على ملف العدالة الانتقالية، فإنّ الوضعية الكارثية التي يعيشها المئات من المنتفعين بالعفو التشريعي العام تدفع بأي متتبع للشأن التونسي إلى طرح جملة من الفرضيات التي قد تساعد على فهم موقف رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة. فالسيدة سهام بن سدرين شخصية حقوقية عامة، وهي محكومة بجملة من المصالح المادية والرمزية التي تتحكم في مواقفها مثلها في ذلك كمثل كل الفاعلين في المجال العام. ولا شك في أنّ “صندوق الكرامة ورد الاعتبار” هو ورقة تفاوضية هامة تملكها السيدة بن سدرين كي تنقل مسارها المهني من المستوى الحقوقي المحض إلى المستوى السياسي، خاصة بعد ارتفاع أسهمها إثر جلسات الاستماع العلني لضحايا التعذيب منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
يذهب بعض الملاحظين إلى أنّ تعاطي السيدة بن سدرين مع موضوع “صندوق الكرامة” هو تعامل محكوم بحسابات سياسية أكثر مما هو تعامل حقوقي صرف. فرغم أنّ هذا الصندوق موضوع للتخفيف من حالة البؤس والعوز التي يعيشها المئات من ضحايا النظام السابق، ورغم أنه سيساهم أيضا في تصحيح المسار التقاعدي للكثيرين ممن كانوا عمالا وطلبة وعملة أثناء تدمير مسارات حياتهم الشخصية والمهنية (هم الآن منذورون إلى نظام تقاعدي بائس لا يتجاوز دخلهم الشهري فيه 150 دينارا، أي ما يعادل 65 دولارا، وهو مبلغ لا يوفّر أدنى مقوّمات الحياة الكريمة للأعزب فكيف بربّ العائلة)، رغم ذلك كله فإنّ تعطيل إنشاء هذا الصندوق -وتواتر الأخبار حول عزم السيدة بن سدرين تحويل أموال الصندوق في صورة المصادقة عليه من جبر الضرر الفردي إلى التنمية الجهوية- يعطي نوعا من المصداقية لمخاوف البعض من أن يكون تعاطيها مع الملف محكوم أساسا بطموحات سياسية (انتخابات 2019) أو مهنية (التمديد للهيئة بسنة خامسة).
مهما كانت حدة التجاذبات وأهمية الرهانات التي حكمت مسألة العفو التشريعي العام، ومهما كانت الفخاخ والمشاكل التي يطرحها القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013، من المؤكد أنّ من مصلحة هيئة الحقيقة والكرامة -وخاصة رئيستها- المسارعة إلى تسوية هذا الملف في أسرع وقت ممكن للابتعاد عن التأويلات والتخمينات التي لن تزيد البلاد إلا احتقانا. فالوضعية اللاإنسانية للمئات من ضحايا نظام المخلوع لا تتحمل أن تكون وقودا لنار الصراعات الحزبية والضغائن الإيديولوجية والمطامح الشخصية، تلك النار التي لن تكون بردا وسلاما على من أوقدها حتى ولو أوهم نفسه بخلاف ذلك.
“عربي21”