بلغيث عون
لا أضيع وقتي كثيرا لأعلق أو أقرأ ماهية البعثية والقومية عموما (إلا من رحم ربك): البناء على أنقاض الإنسان هو ماهية البعثية المتعفنة، لكن أيضا (ما لم نكن نعلمه من قبل) الشيعية الطائفية (الشيعة هنا ليست الإنتماء الثقافي بل العصبية العقدية) وفي الخانة نفسها داعش وأخواتها. لا فرق بين الكوارث التي ذكرت إلا بلون الموت الذي يهدونه للإنسان.
لكن الخوف كل الخوف ليس على سوريا وثورتها: السوريون شبوا على آلآلام التي تجرعوها من حزب البعث النجس وعرفوا طريقهم ولن يكون أمامهم سوى الموت قتالا بشرف أو الموت حرقا وذبحا وتشريدا وبردا وقصفا وجوعا وتعذيبا مثلما هو التاريخ الدموي الأسود للحزب الفاسد في سوريا. الثورة في سوريا لم تعد خيارا منذ زمان والسوريون يعرفون أنها واقع لا محالة والواقع الوحيد الممكن ما داموا بشرا أوفياء لطبيعة الإنسان الحر. أما عن نكسة هنا وهناك فلا جديد نوعيا يطرأ في كل مرة كما بسقوط حلب والوضع على حاله، ثورة بلا انقطاع:
إنه لا انتصار في حلب أصلا من جهة المفهوم الدقيق للإنتصار (الإنتصار علميا بلوغ هدف بحسب قواعد اللعبة/ لا علاقة لما جرى بصراع حقيقي بحسب القواعد الإنسانية)؛ ما جرى لا يسمى حتى قتالا (الميليشيات منذ زمن طويل قلنا أنها لا تقاتل بل تمشي على الأرض المبلطة بالطائرات فوق زرابي مبثوثة مشي البنات) بل قتل (للعزل والأبرياء)؛ لم ينتصر الروسي الإيراني على الأمريكي، فالأمريكي جزء من المحور نفسه (الأمريكان رفعوا فيتو واضح ضد تسليح المعارضة وخاصة بمضادات الطائرات) – الأدق أن الأمريكان والروس والسعوديون والإيرانيون جميعا ضد حلب والثورة السورية؛ لا معنى للممانعة وهذه السخافات، يكفي أن نذكر روسيا الحليف القوي لإسرائيل وهي تهدد نصر الله بمجرد تهديد إسرائيل ونذكر السيسي كجزء من الممانعة (أمسكت المقاومة السورية منذ مدة عناصر وعتادا مصريا في سوريا، وروسيا تعلن أن طائرات السيسي تقاتل في سوريا وتقتل السوريين…).
على العكس قد يكون من الأفضل أن تتلقى المعارضة المسلحة ضربات لا تقصم الظهر وتدفعهم إلى الوحدة: لم نر مسخرة في تاريخ الثورات والمقاومة مثل التي رأيناها في سوريا – فصائل تنقسم وتتقاتل قبل سقوط النظام منذ العام الأول لترنحه (في أفغانستان رأينا الفصائل المقاتلة للروس تنقسم فقط بعد خروج الروس)، هاهنا في سوريا رأينا العجب إذ شرع كل في التفكير بخلافة النظام ويرى المقاتلين أعداءه ولما يسقط النظام. بعد ذلك كل مبادرات الوحدة حصلت تحت نير هجمات النظام وحلفائه..
لا خوف على سوريا بكل المقاييس: العدو واضح والإصطفاف واضح والخسائر ستضطرهم للوحدة وتنقية المقاومة نفسها من مرضى الإنقسام. ذلك سياسيا أما فكريا فلن تسقط هذه الفكرة العبقرية التي مفادها: لا شيء يبنى على أنقاض الإنسان، لا شيء يبنى إلا على قاعدة الإنسان. كل الخوف علينا لا على سوريا…
نحن الذين لا نعرف عدوا من صديق ولا نميز ديمقراطية من ديكتاتورية ونرى كائنات تشبه البشر تستمتع بالديمقراطية والثورة في تونس لتسب الديمقراطية وتعد الثورة التونسية مؤامرة، ولا نفهم كيف ينطق “الديمقراطيون” و”المدنيون” في المجلس المنتخب أو في الإعلام (الذي كله نتيجة لثورة شعب) – ينطقون ضد الشعوب وضد الديمقراطية وضد الحياة المدنية: ماذا يجري لدينا؟ هل سنكذب أعيننا وآذاننا أنه يعيش بين ظهرانينا من يزكي قتل الإنسان باسم جميع الأوهام: الممانعة ومقاومة الإستكبار والوحدة العربية، تماما كما تقتل داعش باسم الشريعة وأسوأ؟ ولعل داعش أكثر منهم شرفا إذ لا تغالط أحدا وتتخذ مسافة واضحة من الناس ومن العمل السياسي. ما العمل، وكيف نصنع مع “الديمقراطي” الذي يؤمن بـ”حرق البلد” من أجل قرد ويدعم علنا بعد أن كان سرا نظام البعث المتعفن وولاية الفقيه؟
لا أرى إلا ضرورة النظر في هذه الكارثة. وأرى ملحا ندوة أو حتى مؤتمرا (هذه المرة لا مؤتمر إرهاب يقتات منه كل مجرمي الأرض) يطرح بوضوح للنقاش الأسئلة التالية: هل أن القوميين والشيعة بالذات (لا يقولن أحد العروبيون ويغالط الناس. القومية ليست العروبة، هي إيديولوجيا شوفينية -إلا من رحم ربك- وليست انتماء بريئا؛) – هل أنهم جادون في كون الإيديولوجيا القومية (بعناوينها المختلفة) والطائفة والولي الفقيه أولى من الإنسان (لا معنى لطرح السؤال عن “الإرهابيين التقليدين” فهم واضحون في خيارهم)؟ هل سيسقط كل ما درسناه عن الإنسان في الفلسفة تحت أقدام هؤلاء الدراويش والمرضى ومتسخي الأيادي؟ إذا تأكد ذلك نعجل بالسؤال الموالي: كيف نعالج الشوفينية القومية والشيعية والداعشية معا وكيف نضع الخطط الفكرية والسياسية لإنقاذ الإنسان؟