إرادة الحرية
في شروط الثورات يقول أهل الفقه إن شرطها تحقق الشوكة وضمان التمكين المسبق قبل الخروج على ولي الأمر، بينما يقول أهل التنوير إن شرطها وجود ثقافة ديمقراطية وليبرالية وتفكير عقلاني عام لدى الشعب ليستحق الخروج على الحاكم المستبد، ويقول أهل اليسار إن شرطها تحقق وعي طبقي بالاستغلال الاقتصادي للخروج على النظام الرأسمالي المهيمن، وقد بحث الفكر السياسي في الشروط السابقة للثورات من حيث كونها أسباباً لاندلاعها، وما بين وجود المعاناة إلى وعي الظلم الذي يخلق المعاناة حتى وعي القدرة على تغيير أسباب الظلم، يمكن لأهل الثورات أن يتكلموا عن شرط أبسط ولكنه الأكثر تأثيراً وإلهاماً وحسماً في قرار اندلاع الثورات واستمراريتها لدى الشعب، وهو: إرادة الحرية.
في العصر الحديث، ولا شك أن ذلك ينطبق على عصور قديمة أيضاً، لم تعد الشعوب تؤمن بحتمية دينية أو طبيعية تبرر ظلم النظام وبطشه، فلا شك أن وعي الظلم وشروطه الواقعية والبشرية والممكنة التغيير هو أشبه بالحس المشترك لدى الإنسان المعاصر، أو أنه أضحى من “المتخيلات الاجتماعية الحديثة” (وهو عنوان كتاب تشارلز تايلر).
ولكن ما نلاحظه رغم ذلك في بعض مراحل التاريخ والمجتمعات هيمنة حالة من “الخوف من الحرية” (وهو عنوان كتاب ملهم لـ إريك فروم)، وكذلك انتشار خطاب “لوم الشعب” على مشاكله ومصائبه، إن الحرية حسب فروم -باختزال وتصرف- تنشأ بالضبط من إدراك الإنسان الموحش لنقصه وضعفه وحاجته للتعامل مع أسباب الواقع بعد أن كان مرتاحاً من هذا العبء في رحم الأم، فالحرية هي مسؤوليته في الوجود، والتي يرتاح عند ترحيلها للسلطات المطلقة.
وقد يتخذ الترهيب من الحرية شكل خطاب ديني، يحذر الشعب من اختيار الشعب، ويحذر الإنسان من أفكار الإنسان، ويفترض أن ذلك بديل عن التسليم لحاكمية الشرع وكلمة لله، وقد ظهر هذا الخطاب لدى المؤسسات الدينية المرتبطة بالسلطة المستبدة في القرون الوسطى الأوروبية سواء لدى الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية أو البروتستانتية.
كما يظهر في المؤسسات الدينية المرتبطة بسلطة القهر العربية سواء لدى المدرسة السلفية أو الصوفية أو لدى منظري التيارات الجهادية، كما يتخذ شكل حرب على البشر الآخرين (البرابرة والشياطين) وعلى من يخالف الفاشية الجماهيرية من الشعب نفسه تحت مظلة العرق الأصفى والأمن القومي، كما قد يتخذ شكل شرعية الاستقرار والتحذير من الفوضى لدى نظم استقرت عروشها على جماجم المعارضين وعظام المقهورين، أو قد يكون التحذير بمظلة “دين العقل” والمستبد المستنير وطبقة المثقفين المرتبطة به والتي تعتقد مثله بأيديولوجية جهل الشعب (كما يسميها برهان غليون).
وتجمع هذه الخطابات على زرع الخوف من الحرية في وعي الناس ومشاعرهم كمعتقد وحقيقة ثابتة، لأن إرادة الحرية لدى الشعب تبدأ من حرية الإنسان في ذاته، ومن توق الفرد الحر لمقاومة الظلم وإقامة شروط العدالة واستكمال إنسانية الجماعة المكبلة بمنظومة القهر والاستبداد في واقعها السياسي أو الاجتماعي أو الفكري.
إن الدعوة إلى الحرية هي جوهر الصيحات الثورية الأولى تجاه الشعب الذي ينتظر الشرارة، منذ صرخة الهجوم الشهير للثوار الفرنسيين على الباستيل في 14 تموز 1789م، وحتى صرخة ثورة الكرامة السورية “الموت ولا المذلة” من درعا في 18 آذار 2011م، وكذلك كانت في البدء أعظم دعوات الحرية وأصفاها جوهراً هي دعوة الإسلام نفسه، دعوة لحرية الإنسان المادية والروحية من أوثان الحجر والبشر، حيث لا إله إلا الله، وليس لبشر ولا مؤسسة سلطة مطلقة في الأرض على الإنسان.
ولذلك كان التوحيد في الجوهر ميثاقاً لحرية الإنسان، وكانت الحرية شرطاً للإيمان “لا إَكْراهَ في الدّين” (سورة البقرة 256)، وعلى هذه الحرية تنعقد المسؤولية والتكليف بحمل الأمانة وإقامة العدل، “قلْ هو من عِنْدِ أنقُسِكم” (سورة آل عمران 165)، إن اقتران الإيمان والحرية والمسؤولية هو جوهر التكريم الإلهي للإنسان في الوجود، وهو كذلك جوهر الشخصية الثورية التي تحمل أمانة تحرير الإنسان في أي زمن ومجتمع.
ولا تحتاج إرادة الحرية لدى الشعب في بدئها مشروعاً واضحاً أو مرجعية فكرية أو “مانفيستو” مسبقاً من أي نوع، ولعل هذه الشروط تُطرح على الثورات من قبل بعض النخب لئلا تحدث الثورات بالأساس، ولكن على الرجال الثوريين وحملة القضية ألا ينسوا بينما يخوضون صراعهم الصعب والطويل تلك الصرخة والمهمة الأولى التي بدأت بها الثورة والتي ستلازمهم طيلة المسيرة الثورية، وهي الدعوة إلى الحرية.
إن من المعتاد والمفهوم ذلك الشعور بالأسى والانزعاج الذي يرافق الثوار بينما ينظرون إلى فئات من شعبهم الذي يناضلون لأجله مستقرين ضمن منظومة القهر والاستبداد، وقانعين بموقع “زنجي المنزل” كما سماه مالكوم إكس أو “العبودية الطوعية” كما دعاها لابواسيه، ولكن ما يجب على الثوار أن يتذكروه قبل لوم الشعب، وهو اللوم الذي قد يكون محقاً أحياناً، هو أين أخطأنا أو قصّرنا أو نسينا في مهمة الدعوة إلى الحرية أو بنائها واقعاً ومؤسسات.
إن كل دعوة أخلاقية تواجه تشويه وحرب الخصوم، ولكنها تواجه أيضاً مشاكل أصحابها أنفسهم سواء بإخفاقاتهم أو صراعاتهم البينية أو تحولهم لطبقة منفصلة عن الشعب ونسيان مهمة الدعوة، وتواجه هذه الدعوة قبل ذلك اختلاف الناس في نزعتهم نحو الإيمان بالمثل العليا والقدرة على التضحية وفي تعاملهم مع الجدلية الصعبة بين الحرية والضرورة (المعيشية).
ولذلك لا يمكن فرض الحرية أو تلقينها بالقهر، وكما يرى المعلم باولو فريري (صاحب كتاب تعليم المقهورين) فإن هذا الحوار الدائم والأخوي -لا التعليم التلقيني أو القهري- ما بين حملة الثورة والشعب هو ما يضمن شعبية واستمرارية الثورة ويضمن قبل ذلك أن يتحرر الإنسان المقهور من داخله وعياً وإيماناً ومسؤولية، فلا تكون حرية الإنسان كاملة بتحريره من سلطة المستبد والمحتل في الواقع ما لم يتحرر هو من الداخل ويقرر تحمل مسؤوليته كإنسان حر وخوض صراع التحرير لأجل تحطيم الطغيان وإقامة نظام العدل، أو بكلمة واحدة حين يملؤه ذلك الوحي الثوري الأول: إرادة الحرية.
يتردد في أدبيات الجهاديين مقولة إن الحاضنة الشعبية للحركات الجهادية كالماء للسمك ومن دونها تختنق، ورغم شاعرية هذا المجاز وكونه هدفاً وضرورة للحركات الثورية، فإن طموح رجال الثورات لا ينبغي أن يقتصر على أنهم سمك يسبح في مملكة الماء، وإنما أن يكونوا طليعة موجة تكبر وتنتشر باستمرار حتى يصبح بحر الشعب موجة كبرى نحو الحرية.
إن رسالة الثورة السورية موجهة لتحرير الإنسان وإسقاط الاستبداد وطرد المحتلين، وهي قضية الإنسان أياً كان انتماؤه ما دام مؤمناً بالمبدأ والغاية، وهي ثورة الأخلاق والسلاح والإيمان والفكر والأدب والفن، ولا يحتكر أحقية تمثيلها ومسؤولية المساهمة فيها مدينةٌ أو فصيلٌ أو تيار، ولا مبرر لخذلان الواجب فيها بتقصير وأخطاء الآخرين، وقد غيرت وجه المشرق والتاريخ وجيل راهن وقادم، ولا يقاس وجودها وانتصارها بمعايير الجغرافيا ولا السياسة، وستبقى ملهمة لكل أشواق الحرية للشعوب والمقاومين، ولن يُسكت صوتٓ الكرامة سجنٌ أو قبر أو مؤتمر، وستبقى هذه الثورة -بعثراتها وآلامها وبطولاتها وأمجادها- أجمل وأجلّ ماعشناه، ولا ندم ولا يأس ولا تراجع عن هذا الطريق العظيم المرسوم بدم الشهداء.
سوري مقيم في حلب