نضال السالمي
يقول آمبرتو إيكو الروائي العالمي المعروف : “يدور الأدب الحقيقي دوما حول الخاسرين”.. وكذلك كانت حياتي : لا أذكر للنّجاح من آمتياز آنساني حقيقي.. إنّه مجلبة للغرور والقسوة والخمول الروحي والنّهم على الدّنيا.. وحدها الخسارات العظيمة تجعل منّا ذوي عمقٍ وحكمة وتجعل إنسانيّتنا تلمع في ظلمات الدّهر كنجمةٍ من الياقوت والألماس.
عشتُ كل حياتي في تعاطفٍ تامّ مع جميع أنواع الضّحايا.. ومنذ بداياتي كطفل كثير الصّمت والشرود كنت أتقفّى صوت أمّي وهي تبكي وحيدة في المطبخ فأقف غير بعيد ثمّ أتسلّل على أطراف أصابعي لأختبئ خلف الباب وأشاركها البكاء.. لم أكن أعرف لماذا تبكي.. ولكنّي شعرت أنّه من الواجب الإنساني أن أبكي معها.. كان عمري أقلّ من خمس سنوات حين بدأت التدرّب على بكاء الكبار.. بعد ذلك بأعوام قليلة، كنت أُرهف السّمع لعبد الحليم حافظ في بيت جدّي المليء بالأخوال والخالات.. وقد كان سماع العندليب في ذاك العصر البعيد وفي ريفٍ جبليّ بالكادِ يكتشف أجهزة الراديو والتّلفاز أمرا من عجائب البهجة.. لكنّي وجدت في نغمات الموسيقى وفي آهات عبد الحليم ثمّ في وجوم الوجوه المتحلّقة حول الرّاديو وهو يفيض بعذابات الحبّ أمرا يحرّضني عميقا على البكاء.. فكنت أتسلّل خلف الباب أو أمضي وراء البيت لأبكي.. لم أكن أعرف معاني الأغنية فلم أبلغ العاشرة بعد.. لكن كنت واثقا أنّ ذاك الصّوت من الطّرف الآخر للعالم كان يبكي ويستجدي تعاطفنا معه.. وقد آمتثلتُ للواجب الإنساني فبكيت طويلا.. بل آستمرّ بكائي مع عبد الحليم سنوات طويلة سيزيدها حبّ السّادس عشر عمقا وتصميما.
في الخامس عشر من عمري بدأت أسمع لمآسي النّاس.. لست أدري لماذا آختارني القدر لهذه المهمّة ولكن كان كل الأصدقاء يحدّثونني بحكاياتهم السريّة.. بقصص حبّهم الفاشلة.. بقسوة آبائهم.. بمشاكل عائلاتهم.. ثمّ بدأ من هم أكبر منّي سنّا في آختياري رفيقا لهم..
في ذاك العام وأنا أتفتّح على المحيط الإجتماعي حدث الموت الّذي سيؤثّر عميقا في حياتي.. فقد ماتت إحدى نساء القرية وكنتُ من بين أوّل الواصلين لأصغر أبنائها وأحبّهم لقلبها.. فوجدناه مرميّا مُغمى عليه تحت شمس آخر الصّيف الحارقة.. كان وجهه أزرقا وعليه علامات الفجيعة المرعبة.. حين أيقظناه كان يبكي بمرارة لم أرى مثيلا لها إلى اليوم.. ولقد قضّيت تلك الأيّام كلّها بجانبه تقريبا.. كان أكبر منّي بسبع سنوات.. لم نكن أصدقاء بل مجرّد أقارب.. ولكن طريقة بكائه في تلك الجنازة الّتي راقبتها بجميع تفاصيلها ربطتني بحبال لا مرئيّة إلى المجد التراجيدي للأبد.
حين مضت الجنازة وبعد أن دفن أمّه قرّر صديقنا مغادرة الوطن للأبد فتشرّد في كل أصقاع العالم لأكثر من ربع قرن باحثا في كلّ المدن الّتي مرّ بها عن قبر آخر يدفن فيه عذابات النّسيان فكافأه القدر بثلاث حروب طاحنة مرّت عليه وهو في رحاب بغداد فيعود منهكا منذ عام تقريبا ليقضّي باقي حياته غير بعيد عن قبر أمّه.. هو الّذي لم يبتعد عن قبرها يوما فقد كان يحمل في داخله قبرا مضمّخا برائحة عطرها وحلاوة ذكراها وعظمة طيبتها وأمجاد آلامها.
أعرف جيّدا أنّه إذا قرأ هذا النصّ فسيبكي عميقا كما أبكي الآن وأنا أكتب هذه الذّكرى الّتي حاولت مرارا العبور بعيدا عنها.. ولكن فليعذرني وهو الذي يعلم عمق المحبّة التي أحملها له أنّ تلك الذّكرى قد غيّرت حياته للأبد.. ولكنّها أيضا قد طبعت حياتي بطابع حزنٍ عميق لا يمّحي وعمّقت بداخلي هذه الميولات المأساويّة الّتي أُخفيها دوما بالإكثار من الفكاهة والجدال وسائر الحيل السّاذجة.
حين أتذكّر حياتي أجد دوما أنّي كنت في صفّ المدحورين والفاشلين والمُعذّبين.. وقد آرتبطتُ بالعيون الباكية برابطٍ خفيّ عصيّ على الفهم وعصيٌّ على الزّوال.. حتّى صرت أشمشم ككلبٍ مأساوي بقايا الدّموع على التراب والأفرشة والطّاولات فألاحق أصحابها حتّى آخر العالم كي يعرف كلّ ضحايا الخيبة أن لا دمعة تسقط إلّا ولي معها أواصر أخوّة ومحبّة وحنين.
… يتبع