سليم الحكيمي
كان ذلك سنة 1955 حين قرر أحمد بن صالح، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل ان يُنقل جثمان الشهيد من قرقنة إلى تونس حتى تقام له جنازة وطنية حرمها منهم الاستعمار بعد رصاص غدره يوم 5 ديسمبر 1952، نزل الرجل بنفسه القبر ليستلم الجثمان فرأى الجسد كما هو لم يتغير في رمسه كما قُبر منذ 3 سنوات، ولون دم الرصاصة القاني يلطخ موقع الإصابة، سقط عبد العزيز بوراوي مغشيا عليه من هول المشهد.. وردد الجميع في المقبرة : “انه مبتسم انه نائم وليس بميت…”. نادوا زوجه، فشهدت بذلك وقالت: “كفن حشاد ابيض عنبر قيزْ كيما هو” . وبقي الغضب حيا، فما أن انطلقت الجنازة من صفاقس إلى تونس حتى التفت حولها الجماهير في كل المدن والقرى والمداشر والدساكر.. وكانه قُتل بالأمس، وصلت مقر الاتحاد، وتدفق الآلاف لقراءة الفاتحة على روحه وليس للوقوف دقيقة صمت…
وردت الشهادات في شريط الجزيرة وثائقية الذي بث حول اغتيال الشهيد سنة 2009… وانجزته ثلة صابرة كمحمد الحمروني وآخرون… شهد احمد بن صالح بان فرحات كان رجلا دون روابط ثقافية مع فرنسا او منظمات شيوعية أو يسارية، بل كان تونسيا قلبا وقالبا من أسرة فقيرة بسيطة ابن صياد سمك… ارتقى من بيت في قرقنة الى منظمة الامم المتحدة في نيويورك، الى بروكسيل وفي فلورنس اين مجتمع المنظمة العالمية للنقابات الحرة. وفتح بذلك المجال أمام بورقيبة للتعريف بالقضية التونسية في الخارج، ففي سبتمبر 1951 دعاه لمرافقته في مؤتمر النقابات الأمريكية بسان فرانسيسكو وقدمهُ للناس، ثم زارا معا الخارجية الأمريكية والكونجرس بواشنطن.
للتاريخ، إلتأم يوم 20 جانفي 1946 مؤتمر تأسيسي بقاعة الخلدونية في سوق العطارين ضم نقابات العمال التونسيين على اختلاف مشاربهم، أشرف على جلسته التاريخية الشيخ الفاضل بن عاشور والشهيد حشاد وأسفر عن بعث منظمة “الاتحاد العام التونسي للشغل” التي ثبّتت وطنية الحركة النقابية التونسية عن النقابات الاستعمارية، أسند المؤتمر رئاسة الاتحاد إلى الفاضل بن عاشور، وانتخب الزعيم حشاد أمينا عاما لها.
اسعفتني الثورة بان حاورت مصطفى الفيلالي واحمد بن صالح وابنه نور الدين على أعمدة صحيفة أسبوعية وأعادوا الشهادة نفسها حول كرامة الجثمان.. حين يشهد أحمد بن صالح اليساري ومصطفى الفيلالي جار الجُنب ورفيق الدرب، وزوجه وام ابنائه “ام الخير”، وثلاثتهم احياء، يتأرجحون بين فضلة حياة وجائحة موت، بأن الجثة لم تتبدل بكفنها الأبيض النقي نقاء البرَد، عليك ان تدرك ان الله حق، وكما قالت زوجه : “زوجي شهيد مخلص، من دنياه إلى جنّته”. أشرف الموت قتل الشهادة، وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أُحد بعد أربعين سنة استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة عم النبيّ فانبعث دماً”.
اغتياله أثار حفيظة المغاربة في الدار البيضاء سنة 1952، فاندلعت المظاهرات ضد فرنسا تنديدا ووعيدا. وانطلقت الثورة المسلحة في المغرب الأقصى في بدايتها حركة احتجاجية على اغتيال حشاد. وبقي الرجل حيا في الضمائر، وفي عام 2005 تم بناء مدرسة في مدينة جنين في فلسطين المحتلة باسم ذكور الشهيد فرحات حشاد الثانوية..
ماذا كان سيكون لون دولة الاستقلال لو بقي الرجل على قيد الحياة حائلا بين انفراد بورقيبة بالحكم..؟ ذلك اروع اسئلة الشريط المنجز ؟ وماذا ستكون الملامح المؤثرة للقوى الشيوعية المتحكمة في الاتّحاد وذلك سؤال…
الوثائقي اغتيال فرحات حشاد