قضية نقض.. فاصل في حديث التوافق
خليل كلاعي
رُفعت قارورة (الفانتا) عاليا بأيدي أنصار حزب نداء تونس أمام قاعة المحكمة الابتدائية بمحافظة سوسة، وتعبر قارورة مشروب (الفانتا) هذه عما كانت تقوم به الشرطة زمن الرئيس التونسي الفار من اغتصاب للسجناء الإسلاميين وتنكيل بهم في السجون، أما اليوم فتعبر دون مواراة عن حقد دفين ومستحكم ضد الإسلاميين وضد وجودهم كمكون قوي من مكونات الساحة السياسية التونسية ويعود هذا الشعار أسوة بغيره من الشعارات والدعوات الاستئصالية إلى الظهور على السطح كلما تعلق الأمر بقضية أو بمسألة إشكالية طرفاها النظام القديم بمختلف تعبيراته من جهة والقوى المحسوبة على الثورة من جهة أخرى وتعتبر قضية مقتل لطفي نقض المنسق الجهوي السابق لحزب نداء تونس بمحافظة تطاوين الجنوبية إحدى هذه القضايا بل لعلها أبرزها وهي ذات القضية التي نظرت فيها المحكمة الابتدائية بسوسة مؤخرًا بعد مسار قضائي تجاوز أربع سنوات.
تعود أطوار هذه القضية إلى الدعوات المتصاعدة سنة 2012 إلى عزل رموز ومنتسبي النظام السابق وأساسًا حزب التجمع المنحل من العمل السياسي خاصة بعد ظهور حزب نداء تونس إلى العلن واعتماده الجلي على كوادر وأعضاء حزب التجمع المنحل بعد الثورة فيما بدا إعادة تشكل لهذا الحزب بواجهة وقيادات أقل شهرة وأكثر قربًا من اليسار ومن التقدميين.
وفي سياق هذه الدعوات خرجت مسيرة شاركت فيها أحزاب النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية (أحزاب مشاركة في الائتلاف الحكومي آنذاك) بالإضافة إلى حركة الشعب والتنسيقية الجهوية للمعطلين عن العمل والرابطة الوطنية لحماية الثورة وطالبت هذه المسيرة أساسًا بتطهير الإدارات التونسية من بقايا حزب التجمع الموجودة في مفاصلها وجابت المسيرة شوارع محافظة تطاوين دون قلاقل تذكر إلى أن وصلت إلى مقر اتحاد الفلاحين التونسيين بالمحافظة (لطفي نقض كان يشغل في الآن ذاته رئاسة اتحاد الفلاحين بتطاوين والمنسق الجهوي لحزب نداء تونس بالمحافظة)، أين تم رشق المتظاهرين بالحجارة وبمقذوفات المولوتوف التي نتجت عنها إصابات خطيرة في صفوف المتظاهرين وحالة من التدافع ومن الفوضى الشديدة، في خضم هذه الأحداث اعترت لطفي نقض حالة من الإعياء الشديد فارق على إثرها الحياة.
بعد مسار طويل نسبيًا من التقاضي والجلسات والتحقيقات والتقارير الطبية والاستماع لشهادات الشهود حكمت المحكمة الابتدائية بمحافظة سوسة على المتهمين بقتل لطفي نقض عمدًا بعدم سماع الدعوة (البراءة) بينما حكمت على من تعمدوا قذف المتظاهرين بالزجاجات الحارقة بالسجن وكذلك على شاهدين من بين شهود الواقعة بسنة ونصف سجنًا لكليهما بعد أن رأت المحكمة أنهما قدما شهادة زور.
أثارت واقعة مقتل نقض حين حدوثها توترًا شديدًا في الساحة التونسية، فالمعارضة آنذاك كانت تُراكم الأدلة والشواهد على انتهاج أطراف مقربة من الترويكا الحاكمة أو منتمية لها للعنف تجاه معارضيهم وخاصة تجاه حزب نداء تونس الذي لم يمض على تأسيسه إلا أشهرٌ قلائل وبثبوت قرب أحد المتهمين من حركة النهضة (سعيد الشبلي) وانتماء آخر إليها (لوحيشي الفاخم) وجد الحزب في مقتل نقض رمزية مهمة جدًا، ففضلاً عن رمي الترويكا الحاكمة وأساس حركة النهضة بتهم العنف والإقصاء والاغتيال السياسي وهو خطاب تبنته جل أحزاب المعارضة تقريبًا، فقد شكلت هذه الحادثة عنوانًا لمظلومية كبرى استثمرها الحزب طول السنتين اللتين سبقتا انتخابات أكتوبر 2014 فسوق لنفسه على اعتبار أنه مستهدف ومهدد وعلى اعتبار أن خصمه السياسي الأبرز (الإسلاميين) مستعد لفعل كل شيء حتى يعيق الحزب عن تقدمه وطبعًا غذى التناول الإعلامي المنحاز والمضلل هذه الفكرة.
وتمكن حزب النداء عبر هذا الخطاب من تحقيق هدفين مهمين في الآن ذاته أما الأول فتمثل في حجب حقيقة أن هذا الحزب يتكون في أغلب هياكله وكوادره من الذين كانوا ينتسبون لمنظومة حكم الرئيس المخلوع بن علي وأن بعضهم متورط إما في جرائم سياسية أو في جرائم فساد واستغلال نفوذ، أما الهدف الثاني فكان الرمزية النضالية التي أصبحت للحزب وهو يقدم (شهيدًا) بفعل عملية اغتيال سياسي في معركته ضد من كان يتهمهم بالظلامية وبالعنف.
كل ما فعله حزب نداء تونس طول السنتين اللتين سبقتا انتخابات أكتوبر 2014 وكذلك في تلك التي أعقبتها لم يكن إلا تكريسًا وترسيخًا لفكرة أن لطفي نقض مات شهيدًا وأن ما تعرض له ليس إلا اغتيالاً سياسيًا بينًا، وقد استفاد الحزب من ترسيخ هذه الفكرة كحقيقة لا تقبل الدحض وكذلك من عمليات الاغتيال السياسي التي وقعت بالفعل في السنة الموالية في مناسبتين متتاليتين ليثبت وجوده في المشهد السياسي وليستخلص خراج عناوين النضالية والمظلومية ووصم خصمه بالظلامية وبالإرهاب في شكل رصيد انتخابي كبير في انتخابات 2014 مكنه ومكن الكثير من رموز النظام القديم من العودة من جديد في مواقع متقدمة.
وواصل الحزب استثمار هذه المظلومية وهذه (الشهادة) كعنوان لمؤتمراته واجتماعاته منها أول مؤتمر عقده الحزب بمحافظة سوسة والذي سمي بمؤتمر الوفاء (وفاءً لروح لطفي نقض) لكن هذا الاستثمار المفرط لدور الضحية واستغلال اسم من يعتبره الحزب ومناصروه شهيدًا أصبح أقل تأثيرًا وقابلية للاستثمار حين حاصرت استحقاقات الحكم وخياراته الصعبة الحزب وحين لم يستطع الحزب أن يحقق من وعوده الانتخابية أي شيء تقريبًا وهو ما حدا بالنائب المستقيل من حزب النداء عبادة الكافي إلى القول: “كل ما وعدنا به التونسيين من وعود انتخابية كان كذبًا”.
عَجْزُ النداء عن تحقيق وعوده كان مشفوعًا بعجز لا يقل صعوبة عن إدارة ملفاته الداخلية وتناقضاته وتصدعاته المتكررة والكثيرة وهي وضعية أضعفت موقف الحزب لدى الرأي العام وموقف قيادته أمام قواعدها وهو ربما التوقيت الأكثر حرجًا بالنسبة للحزب للتعامل مع حكم المحكمة في قضية لطفي نقض.
إذ يُعتبر حكم البراءة الذي ناله المتهمون وإدانة الشهود الذين شهدوا بتعرضه للتعنيف والسحل نسفًا لكل تلك المظلومية التي سوق الحزب لنفسه من خلالها ومع ما تضمنه ملف القضية من تكذيب لتقرير طبي أصر الحزب على اعتماده دون بقية التقارير والشواهد يسقط عنوان الاستشهاد الذي روج له الحزب وجعله دليل نضالية ومظلومية لا أصل لها يسقط في قيمته الرمزية، بل يتبين كذب الحزب وتزييفه لما جرى يوم المسيرة المشهودة من وقائع وترويجه لقتل الفقيد سحلاً ورفسًا تحت الأقدام وهو ما تبين أنه كذب وافتراء.
من الواضح أن قواعد حزب النداء وقياداته وأبواقه الإعلامية لم تكن تتوقع حكمًا مماثلاً خاصة بعد المنسوب العالي من الشحن الإيديولوجي الذي رافق تفاصيل وتطورات القضية وبدا كل هؤلاء في حالة من الذهول والصدمة من الحكم القضائي وذهب جلهم إلى التشكيك علانية في نزاهة المحكمة وإلى اتهام قضاتها بالولاء لحركة النهضة، كما ذهبت أطراف ورموز أخرى إلى الاستنجاد برئيس الجمهورية حتى يوقف هذه المهزلة على حد وصفهم، وقد بلغت الصدمة مبلغها لدى شباب الحزب في محافظة سوسة حد إعلان استقالتهم من الحزب على خلفية عجزه عن الدفاع عن أبنائه، إلا أن اللافت وسط كل هذا الدفق من ردود الفعل كان ولا شك موقف رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي وموقف رئيس الحكومة يوسف الشاهد إذ عبر كلاهما بطرق مختلفة عن امتعاضهما من قرار المحكمة رغم تناقض ذلك مع الدور الذي يلعبه كل منهما على رأس السلطة التنفيذية.
لحزب نداء تونس عمق تجمعي راسخ ويحمل هذا العمق مجموعة من المسلمات منها ولا شك أن القضاء في خدمة السلطة وفي خدمة الحزب ولا يمكن تبعًا لذلك لأي حكم قضائي أن يشُذ عن مصلحة الحزب ويخالفها خاصة إذا تعلق الأمر بقضية وضعت فيها مصداقيته على المحك أما والزمن غير زمن الاستبداد وأما والقضاء التونسي استنشق نسمات الاستقلالية وأما والحزب قاصر عن إملاء الأحكام التي تروق له كما كان يفعل في السابق فردة فعل منتسبيه وقواعده ممن تعودوا على اليد الطولى القوية والظالمة كانت هستيرية بل جنائزية في كثير من تجلياتها.
إن ردود الفعل المتشنجة والساخطة على حكم المحكمة بتبرئة المتهمين مما نسب إليهم في السنوات الأربعة الفارطة لا يتوقف فهمها عند الخيبة التي منيت بها قواعد الحزب ومناصروه بسقوط دعامات شعبيته وببيان زيف ادعاءاته، بل إن أثر هذه الردود وعمقها له دلالات واضحة وبينة على هشاشة منطق التوافق الذي نظم العلاقة بين حزب نداء تونس وبين خصمه السابق وحليفه الحالي حركة النهضة.
وتكشف الشعارات والدعوات التي أطلقت بعد الأحكام الصادرة في هذه القضية لا فقط عن ضعف هذا التحالف واقتصاره على الحد الأدنى والأدنى جدًا، بل كذلك على تبرم قواعد حزب النداء بما لها من عمق تجمعي من حليفه الحالي وعن احتفاظها بما تكنه له من ضغائن وأحقاد إذ عبرت قيادات حزب النداء المعروفة أكثر من غيرها بإعلاء منطق التوافق والمصالحة والعيش المشترك عن إدانتها للحكم ببراءة المتهمين وهو موقف يرجح كفة من يرى داخل النهضة بأن خطاب التوافق ومنطقه ونواياه لدى الندائيين ليس جديًا وأن كلما جمع الحزبين منذ 2014 وإلى يوم حالة من توازن القوى أو كما يسميها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي حالة من التعايش المشترك.
هذا الانقلاب الذي تمثل في الشعارات الاستئصالية الكثيرة التي أطلقتها قواعد النداء وبعض قياداته الحالية والسابقة على منطق التوافق وعلى ما يتطلبه من رصانة سياسية ومسؤولية في التعاطي مع أحكام القضاء خاصة لمن يشغلون مناصب رسمية يبعث على التساؤل عن مدى استعداد المنظومة القديمة سواء تلك التي ظلت خارج دائرة الفعل السياسي بعد الثورة أو تلك التي انتظمت وعادت إلى النشاط داخل حزب النداء أو خارجه للخضوع لمسار العدالة الانتقالية التي بدأت ثماره تنضج والذي يتطلب استكماله استعداد من تورطوا في الاستبداد للاعتراف بالخطأ وطلب الصفح والالتزام بعدم تكرار ما ارتكبوه من تجاوزات.
تفاعل حزب النداء وخاصة حزامه التجمعي والنخب الدائرة في فلكه لا يبدو إيجابيًا إزاء هذا المسار وهو ما يؤشر على أن نوازع الاستبداد لا تزال كامنة في نفوس من كانوا جزءًا من النظام القديم وأن ردة فعلٍ أكثر توترًا وتشنجًا باتت في حكم المتوقع وهو ما من شأنه إضعاف منطق التوافق بين الحزبين وجعله إطارًا ظرفيًا قابلاً لتغيير جذري في أي استحقاق انتخابي مقبل.
هوت الحقيقة في قضية مقتل لطفي نقض بحزب النداء إلى قاع وضع حرج فالحزب يواجه تشكيك قواعده وتضاؤل ثقتهم وانسحابات قياداته وانشقاقاتهم وعجزه عن تحقيق الوعود التي أعلن عنها قبل مجيئه إلى الحكم، وبدأت هالة المنقذ التي كانت تحيط بالحزب عند خوضه غمار منافسة 2014 بالتبدد والانكسار أمام صعوبة الوضع الاقتصادي وتعقد المسألة الاجتماعية وهو ما يضع الحزب أمام خيارات قد تذهب بموقعه كرقم صعب في المشهد التونسي.