لم يكن انطلاق جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد في تونس بداية أعمال هيئة الحقيقة والكرامة؛ فقد سبقتها أعمال جبارة، جمعت خلالها أكثر من 62 ألف ملف من ملفات الانتهاكات، كما استمعت في جلسات مغلقة إلى 11 ألف ضحية.
عندما نعرف أن عدد السكان لا يتجاوز 11 مليونا، ندرك حجم الفضيحة التي كنا ننام عليها.
المسار
لم يصل التونسيون إلى هذه المحطة إلا بعد مسار طويل، ومعقد. فالاتفاق على تصور للمهمة أخذ وقتا، بعد أن انتهجت الوزارة المعنية البيداغوجيا التشاركية.
السياسة، من جانبها، عالجت جزءا من ألغام الماضي بالتخلي عن قانون تحصين الثورة.
في الأثناء، لا يزال ضحايا المحق الاجتماعي والنفسي والصحي ينتظرون من الثورة وحكوماتها إنصافا. الملف عالق بسبب المزايدات السياسية والأيديولوجية. للأسف، ضحية القمع يمكن أن يصبح بدوره قامعا. ويلزمنا وقت كثير لنعيد اكتشاف وبناء إنسانيتنا.
برد الشتاء يتلذذ هذه الأيام بالتهام بقايا أجساد معتصمة في العراء، مطالبة بالحد الأدنى من الإنصاف.
أما الهيئة فهي تتعرض منذ تشكيلها إلى صعوبات كثيرة بسبب ضعف الانسجام وصعوبات التسيير بسبب عدم اقتناع دوائر مؤثرة بتركيبة الهيئة، رئاستها، أو بالمسار جملة.
كثيرون قالوا إن جلسات الاستماع العلنية تأخرت كثيرا، وربما كانوا على حق.
ربما كان بمقدور التونسيين تحقيق إنجازات أفضل رغم التدافع بين جديد لم يتمكن، وكان حريصا على فرصة يخاف ضياعها، وقديم لم يستسلم، ويتوجس من دوران عجلة الانتقام.
كان على التجربة أن تختار بين خطوط ثلاثة للتدافع:
– خط القديم/الجديد: (الثورة، العدالة الثورية/الإصلاح، العدالة الانتقالية، التوافق..).
– خط النمط المجتمعي.
– خط الديموقراطية/الاستبداد.
ميزان القوى المتموج بين “الخوفين”، أدى إلى اعتماد خط الديموقراطية، فحصلت موضوعيا، “صفقة”، محورها الماضي والثورة.
القوى الجديدة تخفف من طلب الإنصاف، والقوى القديمة تتخلص من حلم العودة إلى الماضي.
أما الثورة فإنها وإن كانت غير مكتملة، إلا أنه لا أحد بإمكانه نفيها أو الارتداد عليها.
غير أن التوافق، وإن كان جيدا في السياسة، إلا أن له ضحاياه، وأولاها الحقيقة. فللسياسة حقيقتها الوظيفية التي تختلف كثيرا عن الحقيقة التي يحسها الناس.
ولذلك سُميت العدالة المتناسبة مع أوضاع التحول “عدالة انتقالية “؛ فهي منزلة بين منزلتين، هي “شيء” دون الإنصاف، وفوق الصمت. هي التفريط في شيء من الماضي مظنة إنقاذ المستقبل. هي العدالة عندما يخالطها ميزان القوى.
ما يهون من الأمر قليلا أنها تحصل بـ”رضا” الضحايا.
في هذه السياقات يعد مجرد الوصول إلى مرحلة جلسات الاستماع إنجازا.
الدموع التي وحدتنا
بعض المحطات تربك العقل المولع بالتصنيف:
– نحن في عرس، لأننا أمام استحقاق أخلاقي وسياسي تاريخي، ندشن به مسارا عظيما لترميم الذاكرة الوطنية، ولمصالحة البلاد مع صحائفها السود.
– ولكننا أيضا في مأتم.
تبدأ الشهادات، لنكتشف أن القمع كان أعدل الأشياء قسمة بين التونسيين:
حضر الشهداء الذين نوبوا من يتكلم باسمهم، والأحياء الذين لديهم شجاعة مواجهة ضعفهم،
والنساء اللواتي تكلمن كما لم يفعلن من قبل. فنقف احتراما لكبرياء الحزن الجليل.
البعض حاكم المنظومة برمتها، ولم يهتم بالتوقف عند التفاصيل. والبعض حاول استكشاف تناقضات عقل الجلاد. كيف نفهم ارتكاب أقسى الفظاعات على أنغام أم كلثوم؟ ما هي دوافع الجلاد؟ لماذا فعلتم ما فعلتم؟ بدافع الخوف أم الطمع، أم الولاء، أم الأيديولوجيا؟
تكلم وجدان أمهات وعائلات الشهداء والمفقودين. هم لا يبحثون عن مجد سياسي، لذلك لم يتجملوا.
لا أحد بإمكانه أن يتحمل لوعة زوجة كمال المطماطي، ذاك المفقود الذي لا يعرف إلى اليوم مكان جثمانه. أخيرا، تتداول أخبار أن جثته عجنت في إسمنت أحد الجسور.
تغمض عينيك فلا تسمح لك “خالتي وريدة” بذلك. تربط بين استحقاق الحقيقة، واستحقاق الكرامة. الدموع توحد الليبرالي، واليساري، والإسلامي. فالهراوة لم تفرق بين الإيديولوجيات.
المأتم يكون عرسا إذا دفنا خلاله أسوأ ما فينا. إننا ندخل مرحلة التطهر الجماعي، وكل التجارب مرت من هنا.
الغياب المربك
حضر كثيرون، وغابت الرئاسات الثلاث، وهي من نفس الحزب. لا أحد اقتنع أن الغياب كان صدفة.
البعض قرأ فيه رفض طرف أساسي لمسار لا يمكن أن يتقدم دون تعاونه. بل تساءل إن كانت رؤوس الدولة تأخذ مسافة من مسار هو وليد المؤسسات، فتشكك بذلك، في مبدأ استمرار مرفق الدولة وإن تغير الحكام.
ما غذى المخاوف، هو الغياب اللافت لكبار المسؤولين ما قبل الثورة، وكانوا شركاء في شرف منجزات المرحلتين، وهي كثيرة، وفي تحمل مسؤولية فظائعها، وهي كثيرة أيضا.
يظن البعض أن المتورطين في الانتهاكات يقتصر وجودهم في الحزب، والأمن، والقضاء، وحرس السجون. للأسف، الحقيقة أعقد من ذلك. فقد تورط أطباء، وإعلاميون، ومثقفون خطط بعضهم وشارك في عمليات غسل الدماغ، وتقمص دور ‘المنقذ من الضلال”.
وستكشف جلسات الاستماع أن دائرة المتورطين لا تقتصر على شبكة “القمع الغليظ”، بل تشمل “شبكات مساعدة”، و”خلايا نائمة” من الوشاة والمحرضين، منبثة في كل مفاصل المجتمع.
لذلك يتوقع حصول “مقاومات” من “المنظومة القديمة”، ومن شخصيات وفئات صنعت لنفسها هالات تسقطها الشهادات.
إننا لم نخرج بعد من مربع الخوف، والشهادات يمكن أن توحدنا، كما يمكن أن تفرقنا، وتعود بنا إلى مربع الصراع الذي تجنبناه. ولذلك لا بد لنا من تطمينات متبادلة. ويجب أن تقابل شهامة الضحايا بالإكبار، وبالاعتذار. والاعتذار أعظم علامات القوة.
مأزق السياق
تتزامن جلسات الاستماع مع مناقشات ميزانية الدولة 2017. ظاهر الأمر أن لا علاقة لاستحقاق أخلاقي، وسياسي تاريخي، بحدث يتكرر كل سنة. والحقيقة غير ذلك.
فقد ذكرتنا جلسات الاستماع أن شيئا ما وقع في البلاد اسمه “ثورة”.
وكم كانت فصيحة بعض الشهادات في إدانتها لمجمل الطبقة السياسية. فحاكمت الساسة واستعلاءهم، وتناسيهم لناخبيهم، وتراخيهم في تحقيق المطالب البسيطة للجهات الداخلية. تحدثت بلغة “نحن”، و”أنتم” / “المركز” و”الأطراف” / “المخزن” و”السيبة”.
هددت، ونبهت، وربطت بين المحتوى الأخلاقي للثورة الذي يجسده مسار العدالة الانتقالية، مع استحقاقها الاجتماعي المتأخر. وعرضت “صفقة ” قوية في بساطتها: “اعطونا الكرامة، وخذوا الأمان”.
تونس الأعماق ترفع العلامة الصفراء: “لم يعد الصمت ممكنا، ولم نعد نحتمل معارككم الصغيرة”. كل النخبة السياسية كانت تتابع، فهل تستجيب لنبض وعقلانية تونس الأعماق؟
وهنا يجب النظر إلى ميزانية سنة 2017 لا باعتبارها إجراءات تتحايل على مطالب سنة، وإنما باعتبارها رسما لأفق إصلاحات عميقة تمتد على سنوات، وتحرر، بالفعل، الآلة الاقتصادية من ضغط الاجتماعي، وهشاشة السياسي.
اليد الممدودة
المسار التونسي أمام فرص كثيرة للنجاح والتألق، وأيضا أمام مطبات عديدة:
فخطوط التصدع المحتمل موجودة: الخط الجغرافي، والخط الاجتماعي، وخط القديم /الجديد.
انتخابات 2014 أوشكت أن تضع البلاد على حافة الانقسام. ولذلك يجب النظر إلى الملفات الوطنية نظرة كلية دامجة.
رأينا من ضحايا القمع يدا ممدودة، وقلوبا مستعدة للصفح، إذا وجدت شجاعة، واعتذارا، ورأينا من ضحايا التهميش الاجتماعي تفهما، بشرط وضع خارطة طريق توصل لنهاية النفق. التعامل العقلاني ممكن.
ومن خلاله نحول أعطاب الماضي إلى معارج للمستقبل، ونتجاوز خطوط الانقسام المحتملة، واصطفافات “احنا مين، وهوما مين” بكل تمظهراتها، لترسيخ الوحدة، والانكباب على الأولوية التنموية.