انتقاد القضاء (أو القضاة): الإشكالية والحدود ؟

القاضي أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
قد يبدو الحديث العمومي في القضاء وسلوك القضاة شيئا جديدا ارتبط بالحريات الوافدة مع الثورة، فلم يكن من الممكن أن نوجه قبل ذلك نقدا مباشرا -وبصفة طبيعية- للنظام القضائي وللأحكام القضائية وللقضاة عموما. وبالتأكيد كان “خنق” الحريات في هذا الشأن سببا لغياب تقاليد مستقرة في حرية التعبير تجاه “مؤسسة قضائية مغلقة” عمل النظام الاستبدادي على إدراجها ضمن “المحرمات” التي لا يمكن ان تكون محل جدل او نقاش!.
لكن المعطيات الجديدة (حرية الكلام والإعلام -نقد المؤسسات- الخ..) التي دفعت بموجة التعبير إلى أقصى حدودها الممكنة أصبحت تبرر طرح سؤال أساسي: إلى أي مستوى يمكن للعموم وللسياسيين ولوسائل الاعلام ان توجه نقدها إلى القضاء او القضاة ؟
وتفريعا على هذا السؤال يمكن اثارة التساؤلين الآتيين:

1. سياق الإشكالية:
1.1. يرتبط انتقاد القضاء بقيم جوهرية (او بمصالح مشروعة) هي الحفاظ على استقلال السلطة القضائية التي تكتسي قيمة دستورية (الفصل 102 من الدستور: القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل). ومن الواضح ان تلك الحماية هي التي أوجبت التنصيص بباب السلطة القضائية من الدستور على انه يحجر كل تدخل في سير القضاء (الفصل 109).
ولذلك يمكن القول أن تلك القيمة الدستورية قد لا تسلم من الاعتداء إذا كان القضاة مثلا خاضعين لانتقادات (او ضغوطات او تهجمات) معممة وغير مشروعة. وكذلك الأمر بالنسبة للأحكام القضائية أو تصرفات القضاة التي يجب طبق هذه المبادئ حمايتها من “الازدراء”!.
لكن من وجهة أخرى قد يبدو للبعض أن انتقاد القضاء (أو القضاة) هو بالتأكيد إحدى الآليات التي تمكن عامة الناس من الدخول في جدل عمومي بشأن المؤسسات، ولذلك يذهب هذا الرأي إلى اعتبار الانتقاد بمثابة إحدى آليات الرقابة النادرة على السلطة القضائية.
2.1. لكن هناك -إضافة لذلك- معطيان أساسيان يمكن الإشارة لهما في هذا السياق :
الاول. هو ان كل بحث حول انتقاد القضاء لا يمكن أن يكتمل دون الحديث عن مبدأ التفريق بين السلط (انظر توطئة الدستور التي تشير إلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها). ويلاحظ في هذا الصدد إن أخطر الانتقادات الموجهة ضد القضاء -حسبما تفيده التجربة- ترد خصوصا من السياسيين (السلطة التنفيذية – السلطة التشريعية). وفي هذا يمكن التدليل على حقيقة هذا الواقع بما صدر عن السياسيين (رئيس الجمهورية – رئيس الحكومة – بعض رؤساء الأحزاب – نواب عن حركة نداء تونس..) من تعاليق متفاوتة على الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الابتدائية بسوسة في قضية المرحوم محمد لطفي نقض.
ومن البديهي أن نعتبر أن انتقاد السياسيين للقضاة يؤدي إلى التأثير على ثقة الناس في القضاء وقد ينتهي الى الاخلال باستقلاله. ويتخذ هذا الانتقاد بعدا أكثر خطورة في صورة التحالف بين السياسيين ووسائل الإعلام لشن حملة موحدة ضد المؤسسة القضائية.
ثاني. المعطيين يتعلق بنظرية حرية التعبير التي تدفع في اتجاه التوسيع في حدود الانتقادات الموجهة للقضاة. ويتم الحديث غالبا في هذا السياق عن “مسؤولية القضاة” و”النظرية الديمقراطية لحرية التعبير” وكذلك عن “الاحتراز من الحكومات او السلطات”..الخ.
2. التبريرات الواردة ضد انتقاد القضاء (أو القضاة):
1.2. تستند “النزعة” الحمائية إلى تبريرات عديدة من أهمها :

2.2. ويلاحظ أن هذه التبريرات قد أخذ بها عدد من البلدان كالنمسا وبلجيكا وتم بناء على ذلك اقرار قوانين خاصة ترمي إلى حماية القضاة من الانتقاد المتعسف والحيلولة دون التدخل في سير القضايا (انظر على سبيل المثال الفصل 239 من القانون الجزائي البلجيكي الذي يعاقب الحكام ورؤساء المناطق والبلديات وأعضاء الهيئات الإدارية عن الأوامر الصادرة منهم بقصد الضغط على الهيئات القضائية ومطالبة المجلس الأعلى للعدالة البلجيكي منذ 26 أكتوبر 2012 بتجريم كل تعد على الوظيفة القضائية).
وفي نفس السياق يرى هذا التوجه “أن التعليق علي أحكام القضاء في الصحف والمجلات مدحا أو قدحا غير جائز بعامة… إذ يعد في هذه الحالة ضربا من ضروب التأثير في القضاة والتدخل في عملهم. الأمر الممتنع قانوناً بل والمعاقب عليه جنائياً.
كما أن القوانين -حسب هذا الرأي- “تحظر التعليق علي الأحكام القضائية أو التعرض لها إلا بإحدي وسيلتين. الأولى : الطعن على الحكم وتعييبه أمام محكمة الطعن والثانية : هي التعليق العلمي علي الأحكام. وبغير هاتين الوسيلتين يحظر التعليق علي أحكام القضاء. ويضحي التعليق جريمة ويُوقع صاحبه تحت طائلة العقاب. خاصة إذا تجاوز للمساس بشخص القاضي والتعرض لأسرته وحرمة حياته الخاصة” (راجع بيان مجلس القضاء الأعلى المصري بتاريخ 23 سبتمبر 2007).
وعلى خلاف هذا التوجه أورد المعارضون له تحفظات جوهرية من ضمنها غياب “أي سند لإسباغ حصانة أو تحريم أو تقديس لأعمال القضاة أو أشخاصهم.
فلا الأحكام القضائية -حسب رأيهم- تنزيل من السماء ولا قضاتنا الأجلاء هم آلهة أو رسل معصومون، وإنما هم بشر يصيبون ويخطئون، فيرد على احكامهم أن تعتورها عيوب ناشئة عن أخطاء البشر. “كما” أن إصدار الأحكام القضائية ليس كهنوتاً يحظر على العامة الاقتراب منه بل هي إحدى الوظائف التي تمارسها إحدى سلطات الدولة”.
وإضافة لذلك “فلا يوجد بقانون العقوبات أي نص قانوني يؤثم التعليق المجرد على الأحكام أو تناولها بالنقد الموضوعي البناء المكفول بالدستور دون استثناء، سواء كانت تلك الأحكام إبتدائية أو انتهائية أو باتة. وإنما ورد التجريم في حالات محددة على سبيل الحصر ومنها الحالات المتعلقة بإهانة أو سب أو قذف للمحكمة او قضاتها.”.
وفي كل حال يذهب دعاة هذا الرأي إلى انه “لا يجوز ولا يستقيم أن ينسب لقضاتنا الأجلاء شبهة التأثر بما ينشر في اي من وسائل الإعلام، لأن ذلك يطعن في سلامة ما يتوفر للقاضي من علم وإعداد وتهيئة وملكات شخصية تجعله عصياً على التأثر بأية مادة إعلامية وإلا كان مفتقدا لصلاحية القيام بوظيفة القضاء!…” (هشام المهندس – رد فتوى تجريم التعليق على الأحكام – شبكة المحامين العرب الالكترونية – بتاريخ 24 سبتمبر 2009).
لكن رغم أن حسن إدارة العدالة يبدو تبريرا هاما إلا ان هناك -في مقابل ذلك- قيما موازية أكثر أهمية -في نظر البعض- مثل مسؤولية القضاة وحماية حرية التعبير.
3. التبريرات الواردة لفائدة انتقاد القضاء (أو القضاة):
اضافة لما سبق، يتوقف المساندون لهذا الاتجاه عند جملة من التبريرات الاضافية التي قد تبدو اكثر اقناعا : من ذلك اساسا:

وبناء على ذلك فان ضمان تطبيق “نظام المسؤولية الديمقراطية” يستوجب تمكين المواطنين من مناقشة أداء السلطة القضائية وتنبيه الحكومات او السلطات إلى ضرورة ادخال اصلاحات على النظام القضائي، وهو ما حصل فعلا بشأن عدد من القضايا المثيرة للجدل كقضية “اوترو” في فرنسا التي تعلقت باعتداءات جنسية على مجموعة من القصر (في السنوات المتراوحة بين 1997 و2000) وكان لها تداعيات على الرأي العام فضلا عن إبرازها للاخلالات المرتبطة بالمؤسسة القضائية ووسائل الإعلام. وقد كان من أثر الجدل حول القضية تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في ديسمبر 2005 لتحليل أسباب “الخلل القضائي” المتعلق بسير تلك القضية واقتراح إصلاحات في النظام القضائي الفرنسي.

ويتضمن ذلك الاعتراف لعامة الناس وخصوصا للصحفيين المحترفين والفاعلين في المنظومة القضائية وأساتذة القانون بحق التعليق وإبداء الرأي والانتقاد النزيه للتصرفات والقرارات والأحكام القضائية مساهمة منهم في تطوير “السياسة القضائية”. وعلى هذا الاعتبار يمكن لحرية التعبير في هذا السياق ان تكون أداة “لتحقيق الذات” سواء على المستوى الفردي او المهني.
وفي نفس الإطار يمكن القول أن الحد من حرية النقد تجاه القضاء من شأنه أن يحول دون تطور الاهتمام من جانب المواطنين بالمسائل القضائية اضافة الى ما يؤدي إليه ذلك من انحسار للثقافة القانونية لدى العموم.

وفي هذا السياق يبرر البعض أن خلاصة التجربة في هذا المضمار تفيد أن مقاومة “فخ العصمة”بشأن القضاء توجب علينا الانتباه الى ثلاث مسلمات:
الأولى: كل الناس بمن في ذلك القضاة ميالون الى ارتكاب اخطاء (سواء كانت كبيرة او صغيرة).
الثانية: كل الناس بمن في ذلك القضاة يترددون في الاعتراف بأخطائهم.
الثالثة: عموم الناس يداخلهم السرور عندما يشيرون إلى أخطاء منافسيهم.

4. خلاصة الضوابط:
1.4. قد يظهر مما سبق أن الحجج الرامية الى توسيع حظوظ الانتقاد هي أكثر عددا مقارنة بالحجج التي تدعو الى الابقاء على حماية قوية للسلطة القضائية. لكن ذلك لا يعني بالضرورة انها اكثر اقناعا وأن الكفة تميل مطلقا في هذا الشأن لفائدة حرية التعبير.
لكن من الجائز القول إن الحجج “الحمائية” تبدو أكثر التصاقا بالتقاليد المستقرة في حين تمثل الحجج المخالفة التطور التدريجي للقانون في هذا المجال. وفي ضوء ذلك يبدو أن مسار التوفيق بين حرية التعبير واستقلال السلطة القضائية قد بدأ يحتل في النظم الديمقراطية موقعا مركزيا.
2.4. من الثابت أن حماية استقلال السلطة القضائية يمثل مصلحة عامة ولا يمكن بأي شكل التقليل من شأنها. لكن الاستقلال القضائي هو في الاخير احد العناصر الاساسية المرتبطة بالقضاء اضافة الى نزاهة القاضي وحياده. وفي ضوء ذلك لاحظ بعضهم أن انتقاد القضاء لا يستمد قيمته فقط من كونه يدفع أفراد المجتمع إلى المشاركة في الجدل العمومي بل كذلك من واقع مساهمته في مساءلة القضاة. وبهذا المعني فإن استقلال القضاء ومسؤولية القضاة هما في الأصل وجهان لعملة واحدة.
3.4. من الواضح أن النقد المتعسف لا يجب حمايته لأنه يقوض الثقة العامة في النظام القضائي وإدارة العدالة. ولذلك من الضروري حماية هذه الثقة ضد التهجمات “المدمرة” التي لا أساس لها.
4.4. يجب التأكيد على أن الانتقاد النزيه للسلطة القضائية يبقى اداة ضرورية لمراقبتها وتطوير أدائها، وليس من شأنه التأثير على استقلالها وثقة العموم فيها. وبناء على ذلك يجب أن توجد قرينة قوية لصالح حرية التعبير على أن لا تتجاوز الضوابط المقبولة حدود ما يقره الدستور ولضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية (الفصل 49 من الدستور).
باردو في 28 نوفمبر 2016

Exit mobile version