وليد حدوق
المشكلة مع قانون المالية المطروح أكبر من الاحتجاجات القطاعية ومن موضوع التهرب الجبائي وأدوات التقشّف الساذج على غرار تجميد الزيادة في الأجور.
المُشكل الرئيسي يتعلّق بالرؤية، أي في البحث عن التوازن من خلال الترفيع في المداخيل عبر الترفيع في الضريبة، أو وصم قطاعات مهنيّة بالتهرب وملاحقتها بـ “البوليس الجبائي”. وهو أمر ساذج، لأنه يفترض بأن النموّ الاقتصادي لا يتأثّر سلبا بالترفيع في الضريبة ولا يتأثر كارثيا بإشاعة جوّ نفسي يوحي بأنّ الدولة ستفترس بكلّ أدوات القهر والزجر كل من ينجح، وأن الثراء نفسه تهمة، وأن المهن الحرة وفضاءات المُبادرة الحرة مُتّهمة جبائيا حتّى تثبت براءتها. هذا الجوّ النفسي وهذا الخطاب لن يحقق إلا نتيجة واحدة وهي دفع نسب النمو إلى أدنى مستوى ممكن.
وصم المهن الحرّة أو التدمير غير الواعي للمصعد الاجتماعي وقيمة الكَدّ
تأليب الأُجراء على المهن الحرة، وتأليب المهن الحرة على بعضها البعض، وتأليب المجتمع على قطاعات كالمحاماة أو الطبّ هو ضرب لتقليد تونسي مهمّ في الصعود الاجتماعي عبر التميز الدراسي. مش صحيح أنه المجموعة الوطنية عاملة مزية على من يدرسون الطب أو ينجحون في مهنة المحاماة أو غيرهما، والعكس أيضا غير صحيح. من واجب المجموعة الوطنية أن تستثمر في قواها البشرية لتُخرّج أطباء ومحامين ومُهندسين، ومن واجب هؤلاء أن يساهموا في الثروة الوطنية المادية والمعنوية من أي موقع يُتاح لهم، في القطاع العام أو الخاص وبدرجة أقل في الخارج، ولا فضل لهؤلاء على أولئك.
دول شقيقة، بعضها في جوارنا، كان عندها تقليد عريق في مجال كتدريس الطب -جامعة الجزائر نموذجا- التي تخرج منها الرعيل الأول في الطب بتونس، تدريجيا أدّت حملات القصف الجبائي للقطاع الخاص والوصم للناجحين فيه إلى هجرة عامّة لم تُبق ولا تذر حتّى أصبح مواطنوها يأتون لتونس للتداوي.
الناس الكل، بما فيها بعض الإعلاميين، تسأل على “الثراء السريع” للأطباء في القطاع الخاص، حتى واحد ما سأل عن حجم ما يوفره تصدير الخدمات الطبية والسياحة الطبية من عملة صعبة وموارد شغل مباشر وغير مباشر…
أحد مفاتيح النمو الاقتصادي هو تثمين المبادرة الحرة، ليس فقط الأطباء والمحامين، “الصنعة” والحرف، الفلاحون مالكو الأراضي الصغار والمتوسطون، الصيد البحري، الفنانون والمبدعون، التجار الصغار والمتوسطون، الصحفيون المستقلون، الكتاب والباحثون المستقلون.. هذي كلها مهن حرة. كلّ هؤلاء لا يتمتعون بـ”الأمن الوظيفي”، ما عندهمش ضمان أنه اللي يربحوه اليوم يقدروا يربحوه بعد عام أو بعد أسبوع.. هؤلاء ليسوا أجراء وليسوا أعرافا.. ومقابل عدم أمنهم الوظيفي من حقهم أن تتحول الجباية المفروضة عليهم المباشرة وغير المباشرة وكُلفة الإجراءات إلى مُساهمة بالرضا في الجهد الوطني، أي أن يتم تقديرها وتحديدها برضاهم وعلى أساس نقاش عميق وذي رؤية بعيدة المدى.
الأجراء، وأجراء القطاع العمومي، أوّل ضحايا التأجير بمنطق التكية ورزق البيليك
بالنسبة للأجراء، كل ما يُقال وما قُتل قولا حول تدهور مستواهم المعيشي صحيح ودقيق، الأجراء في القطاع الخاص والعامّ.. وتجميد الترفيع في الأجور حتى لمن يتحصلون على أجر مرتفع في القطاع العامّ غير ذي معنى ليس فقط من زاوية اجتماعية، لكن أيضا من زاوية النموّ الاقتصادي ودورة الاستهلاك. هذا لا ينفي أنه في الوظيفة العمومية خاصة، ثمة مشكل كبير متاع مردودية وأكثر من يدفع ثمن ذلك هم الموظفون العموميون الذين يعملون بأمانة، الموظف العمومي اللي يخدم في الإدارة بتفاني بش يُخلص كيفه كيما الموظف الوهمي اللي تتصبلو الشهرية وهو في الدار، ويخَدّم في زوز تاكسيات خاتر دبر رخصة، وإلا عامل محلّ وإلا يخدم في noir في القطاع الخاص يفلح كيما يقولوها. أول ناس معنيين وأول ناس يدفعوا في ثمن التغيب والتسيب والوظائف الوهمية والمسامر المصددة في القطاع العامّ هوما الموظفين الشرفاء وهم كُثر والكوادر الإدارية المتوسطة والعليا اللي بعض منها يخدم وحده في بلاصة عشرين خاطر اللي يخدم تحته مرسم وما عنده حتى مسؤولية واضربلو عالطيارة..
الدّولة المُتضخّمة اقتصاديا دون جدوى.. “الكثرة بلا بركة”
المدة هذي في تونس، كلما تحدّث أحدنا عن ترشيد النفقات والتقشف يصبح مُتهم في وطنيته والحديث لم يعد حول المصلحة الوطنية وما إذا كانت توصيات صندوق النقد الدولي تتماشى معها كليا أو نسبيا أو تناقضها، وإنما أصبح كيف نستطيع التحيل أو احتواء توصيات صندوق النقد و”التعقيب” عليها.. كيفاش نسلكوها مع هالجماعة اللي جايين يحبونا نعيشوا في الميزيريا.
شخصيا صندوق النقد الدولي وتوصياته تهمني أولا من زاوية التقارير التي ينشرها في ظل غياب تقارير مستقلة غير حكومية تونسية تستطيع الحصول على المعطيات الكافية، باستثناء دائرة المُحاسبات التي لا تركز بالضرورة على الأرقام الاقتصادية.. ما أريد قوله هو أن المهم ليس ما يوصي به صندوق النقد، المهم أحنا وين ماشيين ووين نحبو نمشيو على ضوء المُعطيات اللي تقدمها تقارير صندوق النقد الدولي والتي يمكن أن نفترض أن 70 في المائة منها دقيق، على كل حال هي أدق ما هو متوفر من المعطيات الرسمية.
فيما يلي سأعتمد على تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي بعنوان “تقييم شفافية المالية العمومية” – نوفمبر 2016
طبعا لا فائدة من القول أن نسبة الإنفاق العمومي في تونس تناهز 72% من الناتج الداخلي الخام السنوي، يعني ما يُعادل تقريبا 65 مليار دينار (ألف مليار مليم). في هذا الكل وفي متاهة مساحة التدخل الاقتصادي العمومي في تونس، لن أتطرق إلى كل ما يندرج في إطار الميزانية، مش مهم 13 مليار دينار كتلة الأجور يا سيدي مش مهم النفقات المُدرجة في الميزانية الكل، يعني لنضعها جانبا لأنه هامش المناورة فيها صعب و”تقشقيش زايد” في سياق وضع اجتماعي صعب.
لنمرّ إلى النفقات غير المُدرجة في الميزانية، أي تلك التي لا تخضع أصلا لرقابة برلمانية، وهي نفقات تفاصيلها مسجلة في علم ربي.
– من جملة 3077 وِحدة عمومية تونسية، 2061 وحدة تندرج خارج الميزانية وليس من الواضح نفقات التصرف فيها ولا مواردها من مؤسسات عمومية ذات صبغة غير إدارية وغير إدارية وصناديق خاصّة. 22 الصناديق الخاصة هذي بالذات (وهي غير صناديق الخزينة الخاصة) لا نعرفوها لا منين يتم تمويلها، لا وين ماشية لا فيمَ تُستعمل لا من يُراقبها.. لغز. طبعا لست ديمقراطيا، ولا من أنصار الشفافية المُتبرّجة، يعني أفهم جيدا أن منطق الدولة يفترض وجود هكذا صناديق وحده الأرشيف والتاريخ له الحق أن يحاسب من تعاقبوا على التصرف فيها، لكن من حق المواطنين ومن صالح المجموعة الوطنية أنه على الأقل يتم تقديرها إجمالا دون تفاصيل. علما أنه جملة نفقات هذه المؤسسات والصناديق تُقدر بـ 2.2 % من الناتج الداخلي الخام، يعني حولي ملياري دينار، أو ألفين مليار مليم.
– الشركات العمومية غير المالية وغير المُدرجة في بورصة تونس، يعني كي نحيو البنوك والفسفاط والمجمع الكيميائي.. من جملة 104 شركة عمومية غير مالية 8 ثمانية مُدرجة في سوق الأسهم ونستطيع أن نعتبرها شفافية وأمورها منظمة (شركة الخطوط التونسية تتسمى شفافة مثلا وكل قدير وقدره).. كل هذه الشركات التي يُفترض أن لها مُحاسبة كالشركات الخاصة ولا تخضع لسلم أجور الوظيفة العمومية لا ندري أصلا ما وضعيتها المالية. الشيء الوحيد اللي نعرفوه هو أن 93 شركة عمومية غير مالية (من خارج البنوك والتأمين) تُشكل نفقاتها 38 % من الناتج الداخلي الخام، يعني 32 مليار دينار / ألف مليار مليم.
– النفقات الجبائية، يعني كُلفة التحفيزات الجبائية -قبل الحديث عن الزيادات و”التقشقيش الشعبوي” متاع المحامي يخلص قداش والطبيب يخلص قداش-، إذا نستثني التحفيز الذي تتمتع به الشركات المُصدرة كليا (800 مليون دينار) والذي أعتبره وجيها، مثلا الإعفاء من القيمة المضافة في توريد وتوزيع مواد غريبة أحيانا (جلد الحيوانات مثلا إلا إذا صدر تنقيح لأنه النصوص الجبائية متاعنا طوفان ما شاء الله) يكلف 0.9 من الناتج الداخلي الخام، يعني حوالي 800 مليون دينار. طبعا لا حاجة للتطرق إلى كُلفة إدارة التحفيزات الجبائية نفسها، الموظفين والطلوع والهبوط والجوجمة واللي مهف أكثر يعرف كيفاش يخرج بأكثر تحفيز إلخ..
– الصناديق الاجتماعية من غير ما نحكيو عاد…
الحاصل الواحد كي يدخل في متاهة نفقات الدولة يحس روحه في دولة فيها مليار مواطن وإلا في الاتحاد السوفياتي أول الثمانينات. شيء يجوجم. تقول ساعات لازم يتم انتخاب برلمان آخر يصوت على النفقات غير المدرجة في الميزانية ويثبت هالدولة اش تملك وفاش تعمل الحاصل شيء يهبل.
لو “نجّرو” عشرين في المائة من النفقات غير المدرجة في الميزانية قد نستطيع التخفيض أصلا في نسبة الضريبة على الفاعلين الاقتصاديين والأشخاص الطبيعيين التونسيين المقيمين، مش نزيدو الضريبة على اقتصاد يعكز، ونجمدو الترفيع في الأجور على ناس هي بيدها تاعبة.. يعني قانون مالية يفترض نسبة 2.5 نمو ببوليس جبائي، تي حتى كي ناوي تعمل بوليس جبائي ما تعلنش عليه لازمك…
ولله الأمر، من قبل ومن بعد.