عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصـــــوَّت إنســـان فكـــــدت أطيـــــــر
“الأحمير السعدي”
كم يراودني هذا البيت عندما أذكر عذابات المعارضين للنظام التونسي بحقبتيه البورڤيبية والنوفمبرية. كم أشعر بألم يحبس أنفاسي ويربك لساني. عندما تتزاحم الذكريات عندها يتوقف الكلام وتخرّ المباني في محراب المعاني المؤلمة، عندها يفيض الصمت وتتكلم الجراح أنينًا حتّى لكأنها الآن تُدمى وحتى لكأنني أسمع “زوّار الليل” ودقات الباب العنيفة.
تعود بي الذاكرة تعتصرني، تؤلمني الآن من جديد.
لم يكن ما سمعته على ألسنة الضحايا-الشهود بالجديد ولم يكن ما شهدوا به أقسى ما سمعت ولا أشدّ ما لحق بالتونسيين من عذاب على أيدي التونسيين ولكن تلك الشهادات أحيت فيّ حرقة وقهرا من ظلم “الإنسان” لأخيه.
نصف قرن عاشها والدي اليوسفي لا يشكو خوف الرقيب ثم تلتها حقبة نوفمبرية أظلم وأطغى غرست فيّ رقيبا مني على نفسي خوف الرقيب. فأي إنسان هذا أيّ حطام يريدون لولا إيمان عميق أن فجرا سيبزغ وسيعلو صوت الضحايا وسيكون لنا وطن، وطن حرّ لا رقيب فيه.
ما حصل من جلسات الاستماع لضحايا القمع والاستبداد كان حلما للضحايا أن يتكلموا ملء أفواههم وأن يصرخوا بأعلى أصواتهم وأن يفرغوا آلامهم وأوجاعهم وأن يحفظ الوطن ذكراهم ليدخلوا التاريخ بُناة للبلاد في غير ثأر ولا تشف.
ما حصل جميل رغم قبح العذابات، جميل أن نبني به حصنا يمنع شبح الاستبداد أن يعود.
جميل إصرار الثكلى “وريدة” على تقديم المزيد من الأبناء فداء للوطن وذلك لعمري صمام أمان أن لا خوف بعد الثورة ولا ركون للظالمين.
جميل أن لا تطلب الأرملة، أرملة المطماطي، تعويضا ماليا وأن لا تتاجر أمه بدمه بل تطلبان إنصافا للضحية وإكراما للرفات إكرامًا للإنسان.
جميل أن لا تطلب “الشهيدة الحية” بسمة بلعي رغم جرحها النازف غير منع عودة بن علي وما يرمز إليه من ظلم وقهر.
جميل أن يسود العفو والصفح وأن لا يذكر سامي براهم جلادا باسمه وأن لا يغرق في تفاصيل التعذيب المؤلمة لتوقٍ في نفسه إلى العفو من أجل وطن يتسع للجميع، وطن يسع الضحية والجلاد.
جميل أن لا تسقط جرائم التعذيب بالتقادم فلا ينسى الوطن آلاما مات كثير من أصحابها لكن من بقي منهم حيّا يسعف الذاكرة ويحكي الحكاية. مات الكثيرون للأسف الشديد وفي قلوبهم غصّة لكن بقي جيلبار النقاش ومحمد غرس وغيرهما أحياء يعاندون النسيان.
جميل أن تراوح جلسات الاستماع الأولى بين تاريخ تونس بكل مراحله مراوحة تعيد صياغة التاريخ وتؤسس لبناء مستقبل بنته أجيال تلو أجيال.
جميل أن يكون الضحايا من مدارس فكرية مختلفة والأجمل أن تشهد أم ضحية إسلامية، أم كمال المطماطي، بوقوف مناضلة يسارية، راضية النصراوي، معها. جميل كذلك في نفس السياق أن يمهّد مناضل إسلامي، سامي براهم، لشهادة مناضل يهودي يساري، جيلبار النقاش.
رسالة هذا الطيف رغم جرحهم النازف وألمهم المتجدد أن نبني وطنا لا جلاّد فيه ولا أنين، وطنا يعيش فيه الإنسان حرًّا ويموت كريما ويدفن في المقابر لا في الجسور. (2)
عاشت تونس حرة أبية
والمجد للشهداء
__________
1. “يكفهرّ لها وجه الله” عبارة للدكتور المنصف المرزوقي في مقال له بعنوان “نجيب الحسني ونزار نيوف مظلمتان يكفهرّ لهما وجه الله”.
2. “لا في الجسور” إيحاء إلى ما يروج عن دفن كمال المطماطي في خرسانة جسر قيد الإنشاء.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.