نضال السالمي
إلى جميع القرّاء دون استثناء.. أهدي بكل ودّ ومحبّة هذه الكتلة من الفجيعة : لم نأتِ للكون لنرقص ونتسوّق بل لنحفر بين الأنقاض عن جثّة الإنسان..
بين شهقات الجسور.. وأنين الرّمال والأسمنت.. نسكن نحن.. لأنّ كمال المطماطي هو الجسر لا الجثّة.. ونحن الجثث لا الجسور ولا حتّى البشر.
بيان إدانة :
اليوم لم أذهب للعمل..
مرهق جدّا صحيّا ونفسيّا..
البارحة لم أنم تقريبا إطلاقا.. كنت أشعر أنّي مغمى عليّ ولست نائما.. كنت واعيا بكلّ شيء.. كان جسمي يكاد يبكي رغبة في النّوم ولكن روحي لم تغادر يقظتها لحظة واحدة..
كنت أراقب الضّحايا بين النّوم واليقظة وهم يُطلّون عليّ من بين شقوق الذّاكرة.. كنت أحلم بعيون مفتوحة..
حين تقلّبتُ يمينا.. رأيت رشيد الشمّاخي عاريا، جائعا وفي عطش شديد.. فمنذ ثلاثة أيّام لم يمنحوه أيّ شيء يسدّ به رمقه.. رأيته يطلب من بسمة البلعي شربة ماء وهي مضرّجة بدمائها.. فتلتفت له بحزن شديد وتقول : “سترتقي الليلة شهيدا.. وستتحوّل إلى بطل من ورق في قصّة حزينة سيكتبها رجل مجهول يُقال له نضال.. وهناك سترتوي من الحبر.. لا عليك.. ليس الحبر كالماء.. ولكن العطشان كالغريق سيتعلّق ولو بقشّة أو بشربة حبر عابرة”.
حين آستدرتُ يسارا.. رأيت نبيل بركاتي.. اليساري الأخير.. رأيته يركض في الحقول وفي يده مخّ عظامه وقد اختلطت بدماء الحلم المهدور…
حين أرهقتني المشاهدات.. تحوّلت على ظهري وعيوني المُغمضة تنظر إلى السّقف وهناك رأيت الشّهيد كمال المطماطي.. يركض صارخا فوق جميع الجسور : أنا الإنسان.. أنا الإنسان.
أثناء ذلك تحرّكت جثّتي النّاعسة وأنا أصغي لصوت عميق يبكي في وجداني.. بشقّ الأنفس عرفت أنّه صوت بسمة البلعي يقول : “أنا ما حلمتش كالبنات لكلّ.. تمنّيت نجيب صغرون ونربّيه لكن أنا ما حلمتش كيف الناس.. أنا حلمت كان بالمركز.. بالعصا… حلمت بأمّي تمدّلي السّفساري وتقلّي برّا صحّح في المركز صباح.. عشيّة.. قايلة.. أنا ما عشتش وما حلمتش كيفكم”.
ساعتها سالت دموعي غزيرة.. وأنا في غيبوبة المأساة.. فلم أفق من سباتي إلّا حين آمتدّت يدًا رقيقة تمسح دموعي.. فأنتبهت من نومي فإذا هي دموع تلك الطفلة البريئة.. ابنة ذاك السّجين الّذي حدّثتكم عنه.. مسحت دموعي وهي تقول : “ما تبكيش عمّي الراجل.. هاني بحذاك”.
فتحت عيوني جيّدا.. آنتفضت مذعورا.. لم أعرف جيّدا أين أنا ساعتها : في الواقع أم في الخيال ؟؟
ثمّ آبتسمت ساخرا من نفسي.. وهل مازال بين الحقيقة والأحلام من جدار.. هل ثمّة فروق حقيقية بين عالم الضحايا وعالمنا.. بين الخيال والحياة.. بين مآزق السّؤال وفظاعات الجواب ؟؟
في الحقيقة.. نحن جميعا ضحايا كمال المطماطي.. فمنذ أن صار الرّجل جسرا وهو يعبر بنا من الحقيقة إلى الأوهام.. من الأوهام إلى الحقيقة.. من الوطن إلى الإسمنت المسلّح.. ومن الإسمنت إلى الغبار.. ومن الغبار إلى التّاريخ.. ومن التاريخ إلى المستقبل.
كمال المطماطي هو الجسر إلى القيامة.
صباح الخير.. أيّها الأصدقاء والأحبّة.. انظروا الآن يمينا.. لتتفاجئوا بعيون الضّحايا تراقبكم في صمتٍ أشدّ على النّفس من ارتطام الجبال وهدير العواصف..
الآن.. لا مفرّ : إنّ الضّحايا ظلّ الله في الأرض وحكمه النّهائي علينا.. نحن شهود الزّور.. نحن إخوة يوسف.
سلامًا..