تجربة معلم (3)
النقل المريح…
نهضت على الساعة الرابعة فجرا لأتمكن من الوصول باكرا إلى مدرستي التي لم تكن تبعد عن وسط المدينة سوى 30 كلم فقط ولكنها في عزلة تامة عن كل محيطها، فأقرب طريق موصلة إليها شمالا تبعد عنها 8 كلم وأقربها جنوبا كذلك. هاتفت عون التنظيف الذي كان يقطن غير بعيد عن سكناي وتواعدنا على اللقاء هناك في المحطة. 10دقائق كانت كافية للإغتسال والوضوء والفطور وارتداء ما تيسر من ثياب.
التقيت ب”الحبيب”عون التنظيف في محطة على أطراف المدينة بعد ربع ساعة مشيا على الأقدام فسلمت عليه فرد التحية متسائلا:”هل سيسمح لنا سائق الحافلة ومرافقه اليوم بالصعود؟ فأجبته بلهجة الواثق أن نعم إن شاء الله. أتعرفون لماذا يسأل؟ لأننا كنا مرفوقين بدراجة نارية هي أقرب في مشيها إلى السلحفاة منها إلى أي شيء آخر. لقد كنا وعوْنيْ النقل نتحايل على القانون ونخالفه من باب الإنسانيات لا غير ونطوعه حسب المصالح الإنسانية.
دقت ساعة الصفر وتوقفت أمامنا “زينة”. اتجهنا إلى الباب الأمامي وسلمنا على من في الحافلة وحمدنا الله أن السائق نفسه وعون الإستخلاص نفسه اللذان يعرفان كل تفاصيل ما نعانيه أثناء رحلتنا تلك. سمح لنا كالعادة بحمل الدراجة النارية داخل الحافلة على أن يكون ذلك سرا بيننا مادمنا هناك على الأقل. لقد كانت الحافلة مخصصة لنقل التلاميذ من الأرياف إلى معاهد داخل المدينة كل يوم وفي طريق ذهابها تتوقف بنا الحافلة أكثر من 8 مرات ليصعد التلاميذ ولتدوم مدة الإنتظار في كل مرة بين الـ9 و12 دقيقة.
في آخر محطاتها قبل رحلة العودة من طريق ثان نزلنا من الحافلة لنكمل بقية المسافة المقدرة ب8 كيلومترات في طريق تكاد تجزم أنها ليست على أرض تونس. صلينا الصبح جماعة ثم طلب مني الحبيب أن آخذ المقود عنه فأنا المدير و معلم العربية والفرنسية والإنجليزية في آن واحد في مدرستنا وأدرس ثلاثة مستويات معا بنظام الفرق. بعد كد وجهد وتعب وسقوط ونهوض وضحك وتأوه وصلنا إلى المدرسة التي كانت في أعلى ربوة ولا يجاورها أحد من المواطنين بل كانوا كلهم يسكنون على الربوة المقابلة.
بعد أن أكملت الدرس، دفعنا الدراجة على عجل وامتطيناها متخذين طريقا غير الطريق الأول. بعد أربعة كيلومترات حدث ما لم نكن نرجو. لقد ثُقب أحد إطاري الدراجة!! فُجعت بادئ الأمر لكن الحبيب طمأنني أن لديه رقاقتين لترقيعها. على عجل فعلنا ذلك وأعدنا الأنبوب الهوائي مكانه ولكن هيهات…هناك ثقب آخر. أصلحناه بسرعة وأراد الحبيب أن يريني مهارته ومعرفته بإصلاح الدراجات فوقفت على ذلك بأم عيني: لقد استعمل مفكا(tournevis) ليعيد الإطار إلى مكانه فأحدث بالأنبوب المطاطي ثقبا يعجز العارفون عن إصلاحه ولم يبق لنا غير حل واحد وهو أن ندفع الدراجة مسافة أربع كيلومترات باقية للوصول إلى الطريق الرئيسي.
تناوبنا على ذلك مسافة كيلومتر واحد ثم بدأت معاناة أخرى قاسية…
لقد بدأ المطر يهطل بغزارة تُعجزنا أحيانا حتى عن المسير، فسارعت إلى نزع معطفي لأحمي به محفظتي وما فيها. هناك لا توجد أشجار ولا بيوت نحتمي بها وما زاد الطين بلة أن الأرض طينية سرعان ما تغيرت بطينها ألوان أحذيتنا وملابسنا حتى لا يكاد يعرف أحدنا الآخر. لقد امتزجت المعاناة بشيء من الضحك وذلك حين ينظر أحدنا إلى الآخر فلا يرى غير شبح إنسان.
أخيرا من الله علينا أن وصلنا إلى الطريق الرئيسية حيث انتظرنا مدة تزيد عن العشرين دقيقة تحت وابل من الأمطار غزير لتتوقف أمامنا سيارة بيجو 504 لتوصلنا ودراجتنا إلى المدينة. حين وصلنا كان الجميع ينظر إلى ذلك المشهد ما بين مبتسم ومشفق ومعين لنا على إنزال الدراجة من السيارة وهم يرددون عبارات لرفع المعنويات من قبيل “لاباس لاباس”، “يصير عالرجال”، “الله يعطيكم الصحة”.
لقد أحسست حينها كأنني والحبيب متسابقين فازا في سباق والكل يشجع ويهنئ.