الجبرية السياسية أو : “تسجيل قضية ضد مجهول” عواطف الضحايا وحيَل المجرمين
كان عليَّ أن أنتظر قليلا ريثما تعتدل العواطف فيستوي ميزان العقل.
أعترف أننا بحاجة إلى حالات من التوهج العاطفي فرحا أو بكاء كي نغسل ما علق بالروح من كدر وأحزان… وهل الدموع إلا ماء الروح.
لقد بكيت مرارا وأنا أحدث نفسي أو أحدث الناس في مناسبات مختلفة قبل وبعد 14 جانفي وأنا أسرد ما تعرضت إليه من تضييق وتهديد وإغراء أو ما تعرض إليه غيري ممن أعرف مِحنهم وعذاباتهم، غير أني سرعان ما أستجمع وعيي وألزمني بالتفكير في الواقع أفككه وأبحث عن أسبابه… أقول غالبا ما يستولد الأسئلة وليس ما يستدرّ العواطف، أحب كل أصدقائي ولكنني أحب الحقيقة أكثر منهم ومني فلا أجامل أحدا ولا أتستر حتى على نفسي مؤمنا بكون الإنسان مسار تجارب ومحطات نجاح وفشل، صعود وهبوط.
النفس أميل إلى التبسيط والعقل أميل إلى اختصار الأسباب بحثا عن الطمأنينة الزائفة وتجنبا لكل “اشتباك”… ألم يرجع أجدادنا حوادث اقتتالهم إلى القضاء والقدر؟ ألسنا نلجأ في تفسير فشلنا وخيباتنا ومشاكلنا إلى القضاء والقدر؟ ألسنا نختصر أسباب خصوماتنا في كونها من تدبير الشيطان بدل التدقيق في نصيب كل طرف من مسؤولية الخصومة.
ـ في قضية الحال وأنا أتابع بكل ألم ما يصدر على ألسنة الضحايا من تفصيل للإعتداءات البشعة لم أكن مصدوما ولا متفاجئا فلقد سمعت قبل ذلك بأبشع مما قيل ولكنني شعرت بخوف من أن تُستمر تلك العواطف في تحقيق أهداف غير بريئة من بينها:
1. التنفيس على الموجوعين والتخفيف من أحزانهم وما يمكن أن تخلفه فيهم من وعي ضروري لخوض الصراع الجدي ضد الظلم والظالمين ولتأسيس فلسفة للثورة ولاجتراح آليات لـ”الحسم الثوري”.
2. إيهام الضحايا بكونهم قد انتصروا على جلاديهم بمجرد التعبير عن معاناتهم ومظلوميتهم في وسائل إعلام وبمجرد حصول تعاطف كبير معهم والحال أن الجلادين لم يُجبروا على الحضور ولم يعتذروا ولم تقتص منهم العدالة.
3. صرف الأنظار عن مجرمين كثيرين هم بيننا وإلقاء المسؤولية على شخص هارب ليس في متناول القضاء -كما لو أننا بصدد تسجيل قضية ضد مجهول-.
4. عدم طرح أسئلة حقيقية عن مكونات الإستبداد ومنظريه وأدواته… فهل كان بن علي ملاكما انتصر على كل الزعماء في مقابلات فردية؟ كيف هزم الحركة الإسلامية التي بدأت نشاطها من السبعينات؟ كيف انتصر على الحزب الشيوعي الذي انبعث منذ 1920؟ كيف طوع اتحاد الشغل وهو منظمة عريقة منذ معركة التحرير ؟ كيف انسحب من المشهد كل من استقبلهم بن علي على انفراد قبل أن يُصدر أوامره بتحرك طاحونة القهر ضد خصومه وخصوم شركائه في مخاصمة الإسلاميين؟ كيف انسحب النقابي الكبير الحبيب عاشور ؟ كيف انسحب السياسي المحنك أحمد المستيري؟ كيف خرج زعيم النهضة راشد الغنوشي من البلاد؟ كيف استطاع بن علي وبكل سهولة -منفردا- تحييد الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واتحادي الطلبة والنخبة الفكرية والثقافية؟ كيف تحول كثير من الجامعيين إلى أوباش لا ينتجون معارف ولا يُشيعون قيما وإنما يتحرشون بالطالبات ينغصون عليهن حياءهن وتعففهن؟ كيف استطاع تجنيد أغلب أصحاب المحلات والرخص وكثير من الإداريين والمحامين والاعلاميين والموظفين قوّادين وشاةً يتجسسون على جيرانهم وحرفائهم وزملائهم وأقربائهم؟ كيف أصبح عدد من الإعلاميين والكتاب والشعراء كتبة تقارير ومحرري وشايات؟ كيف تم اختراق كل الأحزاب موالاة ومعارضة بالمخبرين وبعضهم ممن لهم تاريخ نضالي؟ كيف استطاع بن علي -منفردا- تمزيق الوشائج المجتمعية حتى أصبح الناس لا يثقون ببعضهم ويشكون في أقرب الناس إليهم؟
هل كان بن علي فيلسوفا ؟ هل كان شيوعيا؟ إسلاميا؟ قوميا؟ بورقيبيا؟ هل كان يحمل عداوة عقدية للإسلاميين أم كان يعاني تخوفا سياسيا؟ وكيف استعان بمنظرين استئصاليين في سياسة تجفيف الينابيع وتشويه القيم وتهشيم العزائم؟
5. عدم الإشارة إلى الجهات الأجنبية الداعمة للنظام الاستبدادي وخاصة فرنسا وأمريكا اللتين تحولتا برأي السياسيين عندنا إلى دولتين صديقتين وداعمتين لتونس “الثورة” فلا يُشار إليهما باعتبارهما دولتين مجرمتين وشريكتين في صناعة أوجاع الشعوب وأحزانها.
بعد عشرين سنة من كتابتي لقصيدتي “هبل” سنة 1988 كنت حذرت فيها من كوننا بصدد العودة إلى “هبل” بسبب إشادة الجميع بحادثة إزاحة بورقيبة، وبعد ما خبرته من تفاصيل البلاد وما تعرضت إليه من إغراءات وتهديدات انتهيت إلى قناعة بكون الاستبداد صناعة مُشتركة، فكان نصي الذي استغربه كثير من الأصدقاء بتاريخ 7 نوفمبر 2008 “قراءة في بيان السابع من نوفمبر”… كنت أتمنى لو أننا نستطيع إستعادة اللحظة فنتعامل معها بطرائق مختلفة تجنبنا الغرق في محنة تنبأتُ بكونها تفتح على الفوضى وكتبت بجريدة الموقف مقالات في هذه المعاني.
اعتقادي أن اختزال كل المسؤولية في شخص بن علي هو نفس الخدعة التي انطلت علينا حين اختزل السياسيون كل المسؤولية في بورقيبة… وتلك جريمةُ تزييف الوعي ليست أقل من جرائم الاستبداد.
ما تعرضنا إليه من تهديد وإغراء وتضييق وسحب لجواز السفر وحرمان من النشر ومن الظهور في أي وسيلة إعلامية طيلة أكثر من عقد ونصف كان أشد إيلاما من لو أننا احتجزنا في سجن نعلم فيه منتهانا لسنوات… فليس ثمة من عذاب أشد إيلاما على شاعر أو كاتب أو أي مبدع من أن تحوله إلى مجرد “كائن” يجترع أحزانه وتخنقه الغصةٌ… وليس ثمة من مقاومة أعظم من مقاومة مثقف أعزل لإغراءات نظام متسلط.