سامي براهم
19 مارس 2009
التحفت بالغطاء وأسندت ظهري إلى جدار زنزانتي في هذه الليلة الباردة التي عصفت رياحها وقسا زمهريرها على جسدي النّحيل الذي أنهكته الصّفعات والرّكلات والهراوات… طال سهادي… فقرأت كلّ ما أحفظ من آيات الذّكر الحكيم وسبّحت كلّ التّسابيح المأثورة وغير المأثورة وأنشدت كلّ ما أذكر من أناشيد وأغان وأشعار حتّى تيبّس لساني وجفّ حلقي… فاستحضرت كلّ ذكريات الماضي وتأمّلت في الحاضر واستشرفت المستقبل ودعوت الله لكلّ من أعرفهم ومن لا أعرفهم… ولكنّ ليلي مع ذلك مازال طويلا ثقيلا وسياط البرد القارس تنهال علي من بين قضبان الزّنزانة العارية… لكنّ كلّ ذلك لا يساوي شيئا أمام الوحدة القاتلة التي تدمّر نفسي وتحطّم أعصابي… لا أنيس ولا رفيق إلاّ الارتداد إلى أغوار الذّات المسكونة بالوجع والخوف … أفّ لهذا الليل لا ينتهي ولوحشته لا تتبدّد…
منذ أن نقلت من مركز الإيقاف ببوشوشة إلى الزّنزانة رقم 7 بالسّجن المدني لم أر بشرا قطّ إلاّ سجّاني الذي يتطاير الشّرر من عينيه كلّما رآني كأنّ بيني وبينه ثأرا قديما لا أعرفه… لكنّني أسمع أصوات الذين يؤتى بهم إلى هذا الجناح لينالوا نصيبهم من العقاب والعذاب فتعلو صرخاتهم ثمّ تخفت في شكل نشيج وغمغمات كأنّها تنبعث من غور بئر… لكنّ ليلتي هذه بدون صراخ أو عويل… ليلة جنائزيّة صمتها أشبه بصمت المقابر… المقابر ؟ يا الله أليست هذه الزّنزانة قبري الأخير ؟ هل هي النّهاية ؟ وتكوّمت على الفراش القميء النّتن وانكمشت على أوجاعي مثل دودة جمّد برد هذه الليلة القاسية أوصالها الرّقيقة وهي تتلفّع بشرنقتها… حاولت أن أخلد إلى النّوم… تقلّبت يمينا وشمالا وجرّبت كلّ الأوضاع وأنا أتكوّم في الغطاء الذي يغطّي كامل جسدي إلاّ أنفي الذي أستنشق به الهواء وعينيّ اللتين تجولان في أرجاء الزّنزانة…
وفجأة تجمّد الدّم في عروقي… يا الله ! ماذا أرى… هناك في أقصى الرّكن الشّرقي من الجدار ؟ نقطتي ضوء تنبعثان من جوف أحد الشّقوق… تتّسعان ثمّ تضيقان وترسلان شعاعا مبهرا يخضرّ تارة ويصفرّ أخرى وتلمعان مثل جوهرتين فريدتين ثمّ تنطفئان… ثمّ توزّعت هباءات النّور لتكشف عن جسم نوراني أرجواني شفّاف في حجم عقلة الإصبع يعلو ثمّ ينخفض، يتمطّط ثمّ ينكمش في شكل دائري قزحيّ بديع… وما لبث موكب الأنوار أن تحرّك نحوي… يا الله إنّه يقترب منّي… وانكمشت في ذهول وأنا أرقب المشهد… أتراه ملاكا صغيرا أرسله الله ليؤنس وحشتي ؟ أو ربّما… هو… جان… ؟؟؟ وسرت في كامل جسدي قشعريرة الرّهبة وخفق قلبي بشدّة… أمّا الكائن النّوراني فقد كان منشغلا عن حيرتي بعرضه البهلواني العجيب… وكنت أراقب المشهد وأنا بين الخوف والرّجاء بين الانشراح والرّهبة وآلاف الأسئلة تقفز إلى ذهني… ثمّ أسلمت نفسي كالمخدّر إلى متعة العرض حتّى غلبني الإجهاد على النّعاس…
وأفقت كالمنتفض عند آذان الفجر فلم ألحظ شيئا من ذلك المهرجان النّوراني… يا الله هل كنت في حلم ؟ هل وصلت بي الوحدة إلى درجة الهذيان ؟ غير معقول لقد كنت في يقظة تامّة وكان ذلك الجسم العجيب قريبا منّي… هل أصابني مسّ من الجان ؟… أستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله… فتحت الحنفيّة فإذا الماء كأنّه قطع من الثّلج… توضّأت وصلّيت صبحي ومشاهد الليلة الفارطة تزدحم في مخيّلتي… أسندت رأسي إلى الجدار وقد أصابني الدّوار… ثمّ ما لبثت أن قفزت منتفضا… يا للرّوعة ! يا للجمال ! كأنّه هو… ذلك الشّيء العجيب… حملته في راحتي وقد انشرح صدري… نعم إنّها عقلة الإصبع التي حيّرتني البارحة وكادت تحطّم أعصابي… ما أروع ألوانها ! ما أجمل فروتها التي تغطّي كامل جسدها الرّقيق الشفّاف ! ما أعظم التّاج الذي يزيّن رأسها الدّقيقة… إنّها صديقتي أنا… أرسلها الله إليّ لتؤنس وحشتي… يا الله يعجز لساني عن وصف هذا الجمال… لم أر في حياتي دودة في مثل هذه الفتنة… تحرّكت فوق راحتي ثمّ انزلقت بكلّ نعومة فوق يدي ثمّ زندي وأحسست لذّة مجسّاتها تدغدغ إبطي فأسلمت لها نفسي وهي تخترق الأثواب حتّى استقرّت فوق صدري وقد سرت رعشة النّشوة في كامل جسدي… كانت تبحث عن الدّفء وكنت أبحث عن الأنس… وطفقت أداعب فروتها الحريريّة الرّقيقة وهي تتلوّى وتنكمش… تنقبض ثمّ تنبسط وتنفرج أساريرها وهي تحدّق فيّ بعينيها اللتين كانتا ترسلان الضّوء ليلة أمس… ثمّ صرخت فيها معاتبا… ماذا فعلت بي ليلة البارحة ؟ فانكمشت في حياء… فهدّأت من روعها ملاطفا… لا عليك يا دودتي الملكيّة الحبيبة لقد نزلت أهلا وحللت سهلا ولن تري منّا إلاّ ما يسعدك… الآن فقط عرفت لماذا يناغي الكبار صغارهم قائلين : يعطيك دودة !!! ومنذ تلك اللحظة أصبحت أقضّي النّهار أعرض عليها سور القرآن والتّسابيح الصّباحيّة والمسائيّة فتسكن وتخشع… وعندما أنشد وأشدو بالألحان تتلوّى راقصة بكلّ غنج ودلال… وعند الفطور أنتخب الحشائش الطريّة من الحساء وأمتصّها بلساني حتّى تزداد نعومة ثمّ أطعمها فتلتهمها بكلّ نهم… أمّا في الليل فأسهر السّاعات الطّوال أمتّع البصر بأطياف الأشعّة التي ترسلها من فروتها النّاعمة…
هذا الصّباح دخل سجّاني الزّنزانة قبل التّعداد ودفعني إلى الخارج بكلّ عنف ثمّ قلّب الفراش والغطاء ونظر في كلّ الّزوايا ثمّ ألقى نظرة على الكنيف ووضع أذنه على الجدار… ثمّ خرج مزمجرا مطبقا باب الزّنزانة وناداني صارخا : أريد جوابا واضحا دون مراوغة وإلاّ نقلتك إلى زنزانة أخرى ترى فيها ما لم تره ولن تراه طول حياتك… مع من كنت تتكلّم طوال هذه الأيّام… لا تكذب لقد رآك كلّ الحرّاس وسمعوك !
وقفت مشدوها من هول المفاجأة وقد انعقد لساني… هل سأقول له إنّ لي علاقة غراميّة بدودة ؟ هل سيصدّقني ؟ ربّما سيظنّ بي الظّنون الخبيثة ! ولم ينتظر طويلا بل حمل صمتي على الإدانة ثمّ انهالت صفعات يده الغليظة على رأسي ووجهي : انطق يا ابن الكلب مع من كنت تتناجى… لا تقل لي إنّك على علاقة بجنيّة… ثمّ جرّدني من ملابسي و قيّدني من يديّ إلى قضبان الزّنزانة… ثمّ ما لبث أن فعل بجار زنزانتي نفس الشّيء… وطفق يطوف علينا كلّ ساعة سائلا : ألن تعترفا ؟ سأجعلكما تنسيان اسميكما… وبينما كنّا نقسم له بأغلظ الأيمان أنّنا لم نتخاطب كان سجّاننا يهدّد ويتوعّد بأن يفعل بنا الأفاعيل… وفي المساء قدم الملازم في موكب من الحرّاس في لغط وجلبة يجوبون الزّنزانات أثناء التّعداد الأخير وما إن وصل بقربي وشوش سجّاني بأذنه فطلب إليه أن يفكّ قيدي فقلت الحمد لله عرفوا أنّني مظلوم… ثمّ دفعني سجّاني إلى الدّاخل وأسقطني أرضا أمام جمع الحرّاس وقيّدني من رجلي اليمنى في حلقة مثبتة بالجدار وهمّ بالخروج، فاستعطفته أن يطيل سلسلتي حتّى أقضي حاجتي لكنّه صرخ فيّ هنا تبول وتتغوّط لتعرف كيف تلعب بذيلك وما إن غلّق الباب تذكّرت صديقتي الجميلة فتبدّد حزني… بحثت عنها فإذا هي في شراشف الغطاء تتلوّى وتتكوّم كأنّه نالها ما نالني من عذابات هذا اليوم وكرباته، مددت لها سبّابتي فتعلّقت بها ثمّ وضعتها على صدري فراحت تهدّئ من روعي وتدهن مواضع الألم بلعابها اللزج البارد… نظرت إلى ألوانها الباهرة وهي تسرح في على امتداد يدي وخاطبتها هامسا : أرأيت أنّني لم أفش سرّك لسجّاني يا دويدتي العزيزة… ولكن ّ السّجين المسكين في الزّنزانة المجاورة دفع الثّمن معي… ولكن كلّ شيء يهون من أجل جمالك الفتّان… ثمّ غلبني التّعب والنّعّاس وأنا أتأمّل صديقتي وهي تقوم بحركات متشنّجة غريبة على غير عادتها…
في الصّباح الباكر فتح سجّاني الباب وفكّ قيدي وطلب منّي الاستعداد للقاء حاكم التّحقيق… هناك دعاني حضرته أن أوقّع على أقوالي وإلا ستطول إقامتي في الزّنزانة وحرماني من الزّيارة… وعبثا حاولت أن أقنعه بحقّي في استحضار محام لكنّه كان يصرخ فيّ : ألا تثق بي سأقرأ عليك أقوالك كاملة… ويشرع في تلاوة ما كتبه في تقريره على لساني… لكنّني تمسّكت بعدم الإمضاء في غياب المحامي فسحبني الحارس المرافق من يدي قائلا: أنت عنيد وستواجه مشاكل كثيرة… عدت إلى سجني حائرا وقد أنساني التّهديد والوعيد أمر دودتي الحبيبة… وما إن دلفت إلى زنزانتي وسط ركلات الأعوان وسبابهم حتّى طفقت أبحث عن ذلك الشّيء الصّغير الذي أحال ليالي غربتي أنسا وبهجة… سبحان الذي جعل سرّه في أضعف خلقه !… فتّشت في كلّ الزّوايا والشّقوق والثّقوب ولكن دون جدوى… جنّ جنوني وأصبت بإحباط كبير كمن فقد شخصا عزيزا عليه… ثمّ جلست متهالكا مسندا ظهري إلى الجدار… يا الله أين تراها ذهبت ؟ هل أصابها مكروه لا سمح الله ؟ هل اكتشف ذلك الحشرة أمرها فداسها بقدميه كما تعوّد أن يدوسني ؟ ثمّ ما لبثت أن عثرت على غشاء رقيق شفّاف تذروه الرّياح يمنة ويسرة فازدادت حيرتي… وبينما أنا غارق في حزني وشوقي رفرف فوق رأسي جناحان في أبهى حلّة رأت عيني ثمّ حطّا فوق كتفي وحلّقا في سقف الزّنزانة… رفعت طرفي فإذا بفراشة بديعة تخترق قضبان الزّنزانة بعد أن ألقت عليّ نظرة وداع أخيرة وحلّقت في سماء الحريّة وتركتني وحيدا من جديد بين جدران زنزانتي الباردة.