استقلالية القضاء بين مطرقة السياسة وسندان الإعلام

عادل بن عبد الله

مقدمات قانونية عامة
حتى نبقى بعيدا عن التجاذبات السياسية التي طبعت أغلب التدخلات، يمكننا مبدئيا الانطلاق من التدوينة المهمة التي كتبتها الأستاذة المحامية فاطمة حمدي  في تعليقها القانوني على تبرئة الموقوفين بتهمة قتل القيادي الندائي لطفي نقض، -مع تسليط أحكام عليهم تسلبهم حقوقهم المدنية وتحرمهم من وظائفهم صلب أجهزة الدولة-. ومما جاء في هذا التعليق الموجّه لغير المختصين حتى يكونوا في مأمن من تلاعبات وسائل الإعلام، وتزييفات “الحقوقيين المؤدلجين” ما يلي: “من المبادئ العامة للقانون الجنائي أنّ النيابة تحيل على الأحوط والقاضي يقضي باليقين. (ف)” “إذا تضاربت التصريحات تهاوت ولا يمكن اعتمادها للإدانة”. كما أشارت الأستاذة إلى أنّ “فقه قضاء محكمة التعقيب مستقر على اعتبار أنّ الشك ينتفع به المتهم. (و)” “في جرائم القتل العمد لا بد من علاقة سببية ومباشرة بين الأفعال المنسوبة لذي الشبهة وسبب الموت”. كما ينبغي “في جرائم القتل العمد إبراز الركن القصدي للجريمة”. ولكنّ “ركن الإسناد يصعب إثباته في الجرائم التي تحصل في تجمهر”.

يمكن لصاحب الثقافة القانونية المحدودة -مثلما هو شأن كاتب هذا المقال- أن يفهم من هذا التعقيب أنّ هيئة المحكمة (المتكونة من خمسة أعضاء يرأسهم قاض من الصنف الثالث، يكون رئيسا لدائرة في محكمة التعقيب) لم تصل إلى “يقين” يخوّل لها الحكم بإدانة المتهمين. ومن المعلوم قانونيا أنّ الشك يكون دائما في صالح المتهم، وهو ما حصل في هذه القضية على الأقل في طورها الابتدائي. ولكنّ أغلب النخب “الديمقراطية” على اختلاف انتماءاتها الحزبية “غصّت” بهذا الحكم رغم  أنها لا تفتأ تزايد -على الإسلاميين خاصة- في احترام استقلالية القضاء والفصل بين السلطات وغير ذلك من أسس بناء ثقافة المواطنة. ولا شك في أنّ الحدة التي قوبل بها هذا الحكم -رغم أنه ليس حكما نهائيا باتا- هي حدة مردودة إلى الرهانات التي يعكسها هذا الحكم من الناحية السياسية. فما هي هذه الرهانات ولماذا ينقلب “الديمقراطيون” على  أعقابهم كلما اشتغلت المؤسسات ضد مصالحهم، أو خلاف انتظاراتهم و”توجيهاتهم”؟

النخبة “الديمقراطية” والخوف من “أثر الفراشة”

أظهرت ردود الأفعال الصادرة عن أغلب النخب الحداثية -بعد الحكم ببراءة الدكتور سعيد سلبي ومن معه من تهمة القتل العمد للمرحوم لطفي نقض- أنّ الإيمان بالدولة وبمؤسساتها -ومنها المؤسسة القضائية- هو عند هؤلاء إيمان مشروط، ولا تنبئ الوقائع أنه سيتحول إلى إيمان مبدئي في وقت قريب.

لو جارينا منطق الطاعنين في الحكم والغامزين في استقلالية القضاء، ولو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا خضوع الحكم لاعتبارات سياسية تتعلق بإكراهات التحالف مع حركة النهضة، لو أصغينا -جدلا أو عبثا- إلى أكثر السيناريوهات سريالية، فإنه لا يمكن لعاقل أن يزعم بأنّ نداء تونس -أو على الأقل أحد شقوقه- هو من ضغط لتبرئة المتهمين. فهذه البراءة تجعل الحركة في موضع مساءلة أخلاقية وسياسية لأنها  تنسف سردية “الشهادة” التي أراد نداء تونس أن يستثمرها في محورين مهمين من الناحية السياسية :

1. محور ضرب سردية الاستضعاف أو المظلومية النهضوية ووسمها بالعنف والتطرف، وذلك قصد إرجاع الحركة إلى مربع الاستهداف الممنهج من جميع القوى “الديمقراطية”، كما كان الأمر زمن الصدام الدموي بينها وبين المخلوع وحلفائه “الديمقراطيين” في تسعينيات القرن الماضي. إنها استراتيجية تضمن في الحد الأدنى تحجيم النهضة وتضييق قاعدتها الانتخابية، وجعلها مجرد شاهد زور في المنظومة الحاكمة، كما يمكن لهذه الاستراتيجية -في الحد الأعلى- أن تكون مدخلا للتعامل الأمني مع حركة النهضة لو جرت رياح التغيرات الإقليمية والدولية بما تشتهي أنفس الوكلاء الموثوقين للمنظومة الحاكمة من النخب الشيو-تجمعية.

2. محور ضرب رمزية الثورة والدفع بشهدائها إلى خارج الذاكرة الجماعية بدءا من أيقونة ثورة الحرية والكرامة الشهيد محمد بوعزيزي. فـ”خلق” سرديات استشهادية بعد الثورة وتضخيمها، هو عمل يهدف إلى التغطية بصفة مقصودة على رمزية شهداء ثورة 17 ديسمبر المجيدة، كما أنه خيار استراتيجي يجعل من المطالبة بكشف “القنّاصة” ومن المحاسبة “العادلة” لقتلة شهداء الثورة مطلبا عبثيا لا معنى له، بل هو عمل يهدف في نهاياته القصوى إلى تبرئة المنظومة النوفمبرية كلها، وذلك عبر “أمثلة” IDEALISATION شخصيات تنتمي إلى المنظومة أو تتحرك على هامشها، و”شيطنة” DIABOLISATION الحدث الثوري وتتفيه الرموز المرتبطة به، خاصة شهداء الدواخل والقواحل الذين تمردوا على إرادة المخزنيين الجدد وبنية تسلّطهم الجهوية-الزبونية.

اتهام النهضة: عبثية أم خبث سياسي؟

إذا ما “برّأنا” نداء تونس من التدخل في مسار القضاء لحماية حليفه النهضوي، فإنه لا يبقى إلا “اتهام” حركة النهضة  بالضغط على المؤسسة القضائية للحكم ببراءة المتهمين بقتل المرحوم لطفي نقض. ولكنّ هذه الفرضية تبدو عند التمحيص مجرد إمكان متهافت لأكثر من علّة. ولذلك يمكننا مطمئنين اطّراح هذه الفرضية وعدم الأخذ بها  للأسباب التالية:

1. لقد حُبس كل المتهمين في فترة الترويكا وتم تكييف التهم الخطيرة ضدهم في تلك الفترة أيضا. وسواء آامتنعت النهضة عن التدخل لإيمانها باستقلالية القضاء، أم كانت عاجزة عن التدخل بحكم موازين القوى والضغط القوي المسلط عليها من أهم الفاعلين السياسيين والنقابيين والإعلاميين، فإن الوقائع تؤكد أنّ مسار القضاء كان طبيعيا، كما تؤكد الوقائع نفسها أن المستفيد الأكبر من هذه القضية هو نداء تونس وحلفاؤه في الجبهة الشعبية، الذين جعلوا من قضية لطفي نقض ركيزة أساسية في حملاتهم الانتخابية وفي استعداء الرأي العام ضد حركة النهضة.

2. كانت النهضة عاجزة -في فترة اتسمت بالاستضعاف الممنهج للدولة من لدن أغلب القوى المعارضة “الديمقراطية”-، حتى عن إلزام الأطراف المتدخلة في القضية بتحمل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية. فهي قد عجزت عن إلزام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أو النيابة العمومية بمنع نداء تونس وحلفائه من توظيف قضية، مازالت منشورة أمام أنطار القضاء، كما عجزت عن إلزام “الهيئه العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري -“المعروفة اختصارا بـ”الهايكا”- بالتدخل لضبط المشهد الإعلامي المنفلت وغير الخاضع للحد الأدنى من الضوابط المهنية، بل الذي بلغ به الأمر أحيانا حتى التحريض على التقاتل بين الأهالي على أساس أيديولوجي أو جهوي مقيت.

3. لقد كانت النهضة عاجزة عن تطويع القضاء وهي في مركز السلطة ولها وزارة العدل التي تشرف على النيابة العمومية، فكيف تستطيع الآن وهي مجرد حليف “أقلي” لصاحب السلطة الفعلية أن تفرض إرادتها على القضاء، بل كيف يسمح لها نداء تونس بذلك والحال أنّ هذا الحكم سيقوي من موقع النهضة التفاوضي، وسيزيد في حدة الخلافات والانشقاقات داخل الحركة؟ إنّ قبول النداء بتدخل النهضة في مسار القضاء -على افتراض حصوله- يعني أنّ الحزب الحاكم يعتبر تحالفه معها تحالفا استراتيجيا ودائما، ولكننا نعلم يقينا أنّ جميع قيادات النداء تصف هذا التحالف بالمرحلي والمؤقت والاضطراري، وهي وقائع تجعل من احتمال تدخل النهضة في سير القضاء احتمالا صفريا أو يكاد.

ماذا لو كان الحكم الابتدائي طُعما سياسيا؟

عندما نتذكر القدرات المسرحية الهائلة لرموز نداء تونس بدءا من زعيمه التاريخي الباجي قائد السبسي، وعندما نستحضر أننا نتعامل مع  حركة نداء تونس التي هي مجرد واجهة أساسية من واجهات المنظومة الحاكمة قبل 14 جانفي 2011 وبعده، فإننا نستطيع أن نقدم فرضية يمكن أن تبدوَ بعيدة التحقق ولكنها سياسيا وقانونيا ليست مستحيلة. فبعد صدور حكم ابتدائي أثلج صدور الكثيرين ممن شككوا طويلا في استقلالية القضاء، فمن المنطقي أن يقبل هؤلاء أي حكما قد يصدر في المرحلة الاستئنافية وتقرّه المرحلة التعقيبية. أي إنّ الحكم ببراءة المتهمين بمقتل الندائي لطفي نقّض هو سلاح ذو حدّين: فهو من جهة أولى يظهر حيادية القضاء وعدم خضوعه لشقوق نداء تونس أو لحلفائهم في الجبهة الشعبية وغيرها، ولكنه من جهة ثانية يجعل هذا القضاء في مأمن من أي مطاعن جدّية في صورة ما، تغيّر الحكم إلى ضده في مراحل التقاضي التالية.

إنّ الاحتفاء باستقلالية القضاء وتحرره من الوصاية السياسية هو حديث سابق لأوانه، بل هو “حديث خرافة” في مشهد سياسي وإعلامي يصر المسيطرون عليه على تأبيد الاحتقان الاجتماعي والصراعات الأيديولوجية. ويمكننا التدليل على هذا الوضع المشحون بتدوينة لإحدى نائبات نداء تونس جاء فيها: “لم ينصفنا القضاء، والمجرمون أحرار. لن يدوم هذا الحال، سوف نقتص بأيدينا من المجرمين، وليكن قانون الغاب هو المسيطر، العين بالعين..”. إنه خطاب “النخبة”، خطاب “السياسي”، خطاب “الإعلامي”، خطاب الرغبة والمشاعر السوداوية المحرّضة على الاحتراب الأهلي والاقتتال بين الأهالي! فأين النيابة العمومية والهايكا وكل العقلاء في هذا المشهد السريالي، الذي أصبح السكوت عنه تواطؤا مفضوحا، أو على الأقل اندراجا طوعيا في استراتيجيات لا وطنية مكشوفة ؟

وتبقى نقطة الضوء في العتمة

لقد كان من المفروض أن تستثمر قيادات نداء تونس هذا الحكم لتبرئة حركتهم من شبهة التدخل في القضاء ومحاولة تسييسه، وهي شبهة قوية جاءت العديد من الأحكام -وآخرها الحكم الخاص بقضية جمنة- لترسيخها عند فئة عريضة من المواطنين. ولكن عوض أن تستثمر تلك القيادات في التهدئة الاجتماعية اللازمة للتشجيع على الاستثمار -وفي التهيئة للمؤتمر الدولي للمانحين المزمع عقده في تونس قريبا- فإنها قد اختارت الحرب على السلطة القضائية من جهة أولى وعلى النهضة -بل حتى على مؤسسة الرئاسة- من جهة ثانية.

ورغم هيمنة الخطابات الصدامية التي بلغت حد التهديد بـ”قانون الغاب”، فإننا لا نعدم خطابات عقلانية ومسؤولة، لعل أهمها ما جاء على لسان القيادي الندائي خالد شوكات الذي صرّح -على عكس الأغلب الأعم من قيادات نداء تونس- بأن “السلوك الديمقرطي يقتضي عدم التعليق على أحكام القضاء”، مشيرا في الوقت نفسه إلى أنّ القضية مازالت مفتوحة لأنّ الحكم فيها ابتدائي وهو يقبل النقض في مرحلتي الاستئناف والتعقيب. إنه خطاب رجل دولة ولكنّ ما يحدّ من أهميته السياسية، هو أنه لا يعبّر عن الاتجاه السائد في مجموعة الإنقاذ المنشقة عن النداء بقدر ما يعبّر عن الموقف الشخصي لصاحبه.

لقد أظهرت ردود الأفعال العنيفة على الحكم “الابتدائي” في قضية لطفي نقّض أنّ ما يُسمّى “توافقا” مازال واقعا افتراضيا وخطابيا، أكثر مما هو واقع سياسي موضوعي. كما أظهر هذا الحكم مدى هشاشة العلاقة بين “النخب الحداثية” والمؤسسات وذلك بصرف النظر عن الادعاءات الذاتية لتلك النخب ومزايداتها في مسألة احترام القانون. ولكنّ الأهميه السياسية لهذا الحدث هي أنه قد أثبت أنّ شق حافظ قائد السبسي المهيمن على الحكومة لا يعتبر النهضةّ “شريكا” ولا “حليفا” ولا “نظيرا”، وإنما مجرد طابور خامس لمنظومة الحكم، بل مجرد شاهد زور يجب أن يبقى في موضع الاستضعاف والابتزاز الممنهج لخدمة الطموحات الشخصية لابن الرئيس واللوبيات المرتبطة به. وهو واقع لا شك في أن “النهضة ستأخذه  بعين الاعتبار عند بناء تحالفاتها القادمة مع “شقوق” النداء من جهة أولى، ومع باقي القوى الديمقراطية غير المسكونة بالإسلاموفوبيا من جهة ثانية.

“عربي21”

Exit mobile version