2008/08/04
ارتعشت كلّ خليّة في جسدي وأنا أمرّ من شارع 9 أفريل بالعاصمة باتّجاه مستشفى شارل نيكول… كم قطعت هذا الشّارع مسترقا النّظر من ثقوب تلك السيّارة المظلمة كظلمة القبر… انعرجت شمالا لأرى أطلال السّجن المدني من الخارج… واندفع طوفان الذّكريات المرّة يدكّ أركان نفسي المهشّمة فيبعثرها ويحيلها إلى شظايا بلّور مكسور… تحاملت على جسدي الذي نخرته الأمراض حتّى لا أقع أرضا من الدّوار… يريدون محو آثار الجريمة… لكن هيهات… فخلف جدار هذا المعتقل كم من من أعراض انتهكت وكم من أجساد عذّبت وكم من كرامات أهدرت… أسرعت الخطى لأنّني أحسست باختناق وأنا أستذكر معاناة مئات المساجين في الغرف المكتظّة والزنزانات في مثل هذا اليوم شديد القيظ… حملت بقايا جسدي المحطّم صوب المستشفى، وفجأة إذ بيد تمتدّ نحوي دون استئذان وتحتوي يدي مصافحة… اضطربت وأنا أتثبّت من الملامح… إنّه هو ! تجمّدت في مكاني وحدّقت فيه بعينين ملؤهما الحزن والألم السّاكن في كلّ مسامّ جسدي… لم يترك لي مجالا للكلام أو الحركة وابتدرني بالسّؤال : متى سُرّحت ؟ انشاء الله كفّارة، الحيّ لا بدّ أن يعود !
وانسحب الدّمع من عينيّ وأنا أتذكّر اللذين لم يعودوا بعد أنهكت أجسادهم الغضّة أيدي الجلاّدين الآثمة وفنون التّعذيب والأسقام التي لم تجد للعلاج سبيلا… نعم الأحياء يغادرون وكذلك الأموات… وقطع سجّاني حبل أفكاري : هل تقبل دعوتي على كأس شاي ؟ ولم ينتظر جوابي بل أمسك بمعصمي يجرّني صوب المقهى، وأسلمت له نفسي دون مقاومة وقد ثقلت خطاي وكأنّني به يضع الأغلال في يدي من جديد ويقودني إلى زنزانتي صفعا وركلا وشتما لوالدي ولكلّ من هبّ ودبّ من شجرة العائلة… تحسّست معصمي وقبضته تفارق يدي… سحب الكرسيّ ودعاني للجلوس… نفس الحركة وكأنّ المكان نفس المكان والزّمان نفس الزّمان… كان يسمح لي بالجلوس كلّما كان يريد أن يبتزّ منّي معلومة أو وشاية…
جلس قبالتي وأخذ يتفرّس فيّ بنظرات ثاقبة… ربّما كان يريد أن يرى بصماته على جسدي… آه للأيّام! فعلى مساحات هذا الجسد المحطّم كتبنا أنا هو مأساة وملاحم… صراعا بين العين والمخيط. إنّه الوحيد الذي يعرف جغرافيّة جسدي وتضاريسه ففي كلّ زاوية أو ركن أثر ركلة أو صفعة أو هراوة تهوي فتخترق اللحم وتدقّ العظم… آه يا جسدي المعذّب كلّ ذرّة فيك تستنفر وتصرخ : هذا هو المجرم هذا هو الجاني…
كدت أغادر المكان لكنّه قطع الصّمت المطبق وسط صخب المقهى وسألني : صحّتك بخير إنشاء الله ؟ ونزل عليّ سؤاله نزول الهمّ، واسترجعت شريط الذّكريات الخاطفة واستغاثاتي وأنا أخاطبه من شبّاك الزّنزانة لمّا ساءت حالتي الصحيّة : الطّبيب يا حضرة الوكيل… فيصرخ في وجهي : ممّا تشكو يا ابن الفاعلة ؟ فأتحامل على نفسي وعلى شتائمه طمعا في العلاج وأجيبه : وجع في القلب وآلام في المفاصل وضيق في التنفّس… فيقهقه قائلا : أنت لا تحتاج إلى طبيب بل إلى حفّار قبور ! ويغلق الشبّاك بعنف مزمجرا : لو طرقت الباب مرّة أخرى سأقيّدك من رجليك.
أحرجه صمتي فأخذ يثرثر مشتكيا من التّعليمات التي تضعهم في حرج مع المساجين وخاطبني بنبرة التّبرير والاعتذار : خبزتنا مرّة مغموسة بالقلق والخوف من ظلم النّاس… والله نحن لا نفعل إلاّ ما نؤمر به يا أستاذ ! وضعت مرفقيّ على الطّاولة وأسندت جبيني على راحتيّ… أستاذ ! وتنهّدت من أعماق صدري المختلج بعذابات السّنين التي قضّيتها خلف تلك الأطلال… وأغمضت عينيّ فعادت بي الذّاكرة إلى كهف الأحزان بينما كان يتصفّح كتابا سحبه من تحت إبطي فيه جزء من ملفّي الطبّي وانغمس في القراءة بينما أسترق إليه النّظر وأرى وجهه عن قرب لأوّل مرّة… ربّما رأى نفسه بين الأسطر نفسه الخاطئة وما اقترفت يداه الآثمة من تطبيق للتّعليمات… أه للتّعليمات ! ونظرت إليه بطرف حسير وهو منغمس في تصفّح الكتاب… هل كان من التّعليمات يا حضرة الوكيل أن تفترس قوتي الذي تتكبّد عائلتي مشقّة نقله من مئات الكلمترات ؟ يجوع أفراد عائلتي ليطعموني وبكلّ خسّة تستولي حضرتك على الوليمة الجاهزة وربّما أشركت زملاء السّوء في تلك اللذائذ المجانيّة… وربّما غرفت لزوجتك وأولادك من الغنيمة ! هل كان من التّعليمات أن تجرّدني من ملابسي كلّ دخول أو خروج وتفرض عليّ بكلّ فضاضة أن أركع منحنيا وتأمرني بالسّعال وتعبث بعصاك في جسدي ؟ هل كان من التّعليمات أن تحتجز مصحفي وتمزّقه أمام عينيّ ثمّ تقيّد رجليّ في حلقة معلّقة أسفل الجدار وتشلّ حركتي وتنهال عليّ ضربا وتشبعني شتما وسبّا لأنّني أحتفظ بأحد الممنوعات ؟ وتصرخ فيّ وجهي : أين ربّك ؟… أدعه الآن حالا لينقذك منّي ! هل كنت مأمورا بهذا ؟ إذا فبئس الآمر و المأمور.
أغلق الكتاب بعصبيّة ثمّ سألني بغيظ مكتوم : هل أعطيت اسمي إلى منظّمات حقوق الإنسان ؟ ودون أن ينتظر جوابي أردف : بابتسامة تفتعل السّخرية : نحن يا أستاذ لم نكن إلاّ أداة في أيديهم، أنتم مخطئون وحالمون وواهمون ! وفتح الكتاب حيث وضع سبّابته وتظاهر بالقراءة وقد غاظه صمتي طول هذا اللقاء… ثمّ أغلق الكتاب بعصبيّة : لم تتغيّر… لقد كنت دائما تقابل غضبي بالصّمت… لعلّك تشتمني الآن في سرّك ؟ نظرت إلى الشّعار الذي يزيّن صدره… أسدان متعطّشان إلى الدّماء ومفتاحان غليظان وخلفهما أقفال نحاسيّة سميكة وخلف الأقفال غرف وزنازين وسقائف مرّت منها قوافل من البشر كتبوا بآلامهم ملاحم الأجساد المعذّبة والشّرف المهدور. قرّب إليّ القهوة وسألني بنظرة حادّة : هل ستطالب بمحاكمتي لو توفّرت لك الفرصة ؟ هل ستدعو أنت وزملاؤك إلى شنقي ؟
دفعت إليه قهوته ولسان حالي يقول : لن يثلج شنقك صدري لأنّي أكره الشّنق ولكن ربّما يتبدّد حزني وإحساسي بالمرارة عندما أرى حرقة النّدم ماثلة في عينيك وأتحسّسها في نبرات صوتك… عندها فقط أغفر ولا أنسى… ثمّ غادرت مكاني وتركته لنار سيجارته تحرق شفتيه.