منير الجلاصي
ما الذي يدفعنا إلى الكتابة عن الديمقراطية والانتصاب دفاعا عنها خاصة أنها أصبحت قيمة كونية لا احد يمكنه الاعتراض عليها، الا تكون معركتنا هذه من قبيل خلع أبواب مفتوحة فتكون معاركنا وهمية مثل معارك دون كيشوت بالرغم من وجاهة اعتراضات من هذا القبيل الا ان الكتابة حول الديمقراطية والدفاع عنها تبقى مسألة راهنة، ان الاسباب التي تدفعنا لذلك متنوعة من جهة العدد متفاوتة من جهة القيمة أول هذه الاعتبارات ظرفي يتعلق بالفرص المهدورة التي وفرتها الثورة المباركة والتي لم يغتنمها الفرقاء السياسيين سواء كانوا افرادا ام كانوا قوى سياسية ام كانوا تيارات فكرية فالثورة كشفت ان المعارضة بأطيافها المختلفة ليست سوى قفا السلطة أو السلطة معكوسة ولهذا لم تكن معاركها ضد السلطة صراع مشاريع وإنما كان صراع مواقع ولسبب كهذا وجدت البلاد نفسها في حالة فراغ بمستوياته المختلفة بعد فرار رأس السلطة السياسية من البلاد بل ان الامر اخطر من ذلك اذ ان المعارضة تم اختراقها من قبل السلطة لا بالمعنى الأمني ولكن بالمعنى الثقافي فإذا كانت ثقافة السلطة تقوم خلال ستة عقود على اقصاء الآخر وتخوينه باسم الوحدة الوطنية هذا المنطق لم يختف بعد الثورة بل امتد باشكال واساليب مختلفة تمت ادانة الآخر تارة باسم معاداة الديمقراطية وطورا باسم مقاومة الحداثة وأخرى باسم رفض قيم الجمهورية، إن منطق احتكار السلطة ومنطق احتكار الحقيقة يفضي كل منهما الى الاخر ويدعمه ويؤديان الى نفس النتائج.
ثاني هذه الاعتبارات يتداخل فيه السياسي بالثقافي فتونس هذه المستعمرة الفرنسية القديمة عندما غادرها الاستعمار المباشر فانها لم تترك وشأنها بل فرض عليها ضرب من الإلحاق لفرنسا عبر فرنسة عقول نخبتها التي تم التمكين لها في مواقع التوجيه والقرار، فرنسة العقول ستكون مآلاته خطيرة على بنى التفكير وعلى النماذج المرجعية وعلى الخيارات الثقافية والاجتماعية والسياسية واريد ان اقف قليلا عند هذه النقطة الأخيرة عندما حصلت البلاد على وثيقة الاستقلال كانت على مفترق طرق كان بالامكان ان يتم اصلاح سياسي في إطار التواصل كأن يتم الحفاظ على النظام الملكي على أن تدخل تغييرات طفيفة وتجميلية لبنية النظام وكان بالامكان ادخال تغييرات جذرية على بنية النظام دون تغيير مسماه فنبقى في اطار النظام الملكي لننتقل من ملكية مطلقة الى ملكية دستورية ومن ملك يملك ويحكم الى ملك يملك ولا يحكم او ان يتم اصلاح سياسي في إطار القطائع أي تغيير طبيعة النظام السياسي من نظام ملكي الى نظام جمهوري وهذا التغيير هو شرط إمكان الإصلاح السياسي وشرط إمكان الديمقراطية كمؤشر على دخول الحداثة السياسية.
كيف حسمت النخبة المتنفذة في مواقع التوجيه والقرار هذه الخيارات، حسمتها انطلاقا من التاريخ الفرنسي أي أن هذه النخب اتخذت من هذا التاريخ مرجعا تقيس عليه ما يجب أن يقع في تونس حتى ندشن الحداثة السياسية إذا كانت فرنسا قد دشنت حداثتها السياسية بالانتقال من الملكية المطلقة التي كانت صنو الاستبداد الى الجمهورية التي كانت قرين الديمقراطية وقد مثل هذا التحول نقلة وتحولا نوعيا في التاريخ السياسي للفرنسيين اذ نقلهم من شكل معين من السيادة، من سيادة كانت تمارس باسم الاله الى سيادة تمارس باسم الشعب كان هذا التحول نوعيا وهو يمثل ثورة في حياة الفرنسيين آنذاك وذلك لأن هذه الثورة علمنت الشأن السياسي وجعلته شانا بشريا خاضعا للتقدير البشري بما يقتضيه هذا التقدير من إمكانيات الإصابة أو الخطأ وبما يترتب عن ذلك من مسؤولية أمام الشعب الذي يمكنه أن يحاسب مسؤوليه عن خياراتهم وعن مدى نجاحهم في هذه الخيارات.
اعتقد ان الفرنسيين محكومون بمزاج القطائع سواء تعلق الأمر بما هو نظري أم بما هو عملي وترتب عن هذا المزاج الذي ارتقى الى منزلة النموذج الارشادي أن تمت المبالغة في الحط من الماضي وترذيله وفي قضية الحال الماضي السياسي فتم الربط بين الملكية من ناحية والاستبداد من ناحية ثانية بل اعتبر أن هذا الترابط ليس ترابطا عرضيا بل هو ترابط ضروري بحيث لا يمكن ان نتصور نظاما ملكيا دون أن نتصور الاستبداد أي الشر السياسي حسب لغة بول ريكور وفي المقابل تم الرفع من شأن الحاضر وفي قضية الحال النظام الجمهوري الذي اقيم حديثا فأقيمت علاقة تلازمية بين هذا الشكل السياسي الذي هو الجمهورية وهذه القيمة التي هي الحرية والديمقراطية واعتبر في هذا السياق أن الديمقراطية والحرية منتجان جمهوريان حصريا هذا الترابط والتلازم الموهوم بين الجمهورية كشكل سياسي والديمقراطية كقيمة انسانية سيؤدي الى ما ساسميه بايديولوجيا الجمهورية والمتمثلة في تفضيل في مطلق الاحوال النظام الجمهوري على النظام الملكي والقول بأن هذا الشكل السياسي هو الوحيد القادر على ضمان الحريات والديمقراطية وان تهديد هذا النظام هو تهديد للديمقراطية في حد ذاتها.
ايديولوجيا الجمهورية يمكن ان تجد لها مسوغات داخل التجربة السياسية التاريخية للفرنسيين دون أن يكون هذا التفهم دون تحفظات فإن هذه الأيديولوجيا تبدو مثيرة للسخرية داخل السياق العربي الإسلامي ومن ضمنه تونس فما تغير فعلا هو موضع الاستبداد لا غير إذا كانت الجمهورية في السياق الفرنسي تحيل إلى تحولات في الشكل ترافقها تحولات في القيم فإن الجمهورية في المستعمرات القديمة كانت تحولات في الشكل دون قيم مناسبة لهذا الشكل، صحيح أن حاكم هذه البلاد لم يعد الباي او الملك ولكنه باي او ملك مقنع أي ملك في صورة رئيس جاء إلى سدة الحكم ليبقى الى ان يرفعه عن كرسيه اما الموت وإما انقلاب عسكري، حاكم لا يحكم حسب برنامج وإنما هدفه البقاء في الحكم أطول مدة ممكنة ولهذا تجده يتقلب بين اشد البرامج تباينا فمن الخيار التعاضدي الاشتراكي إلى نقيضه تماما الخيار الرأسمالي دون أي غضاضة في ذلك، أما عن الحياة السياسية فإن الخوض فيها من باب المحرمات والمعارضة السياسية التي تقتضيها الحياة السياسية الحديثة لا مكان لها الا في احد مواقع ثلاث اما القبر واما السجن واما الغربة والمنفى وبالرغم من هذه المآلات فقد تعودنا بموجب تقليد بورقيبي الاحتفال في العشر الأواخر من جويلية من كل عام بعيد الجمهورية ويكون كل مشكك في قدرة الجمهورية على الاضطلاع بمسألة تحقق الحرية والديمقراطية موضع إدانة وتجريم وكان التشكيك في قدرة الجمهورية على تحقيق الديمقراطية هو تشكيك في الديمقراطية ذاتها وهو انزياح يؤدي الى السقوط في الشكلانية السياسية هذه الشكلانية توحد اشد التيارات تباينا وتعارضا فايديولوجيا الجمهورية والسقوط في النزعة الشكلانية يجمع تنظيرات حزب التحرير الاسلامي بايديولوجيي الجمهورية قد يختلفون في النتائج ولكنهم يتفقون في البنى الفكرية ومثلما يعتقد انصار حزب التحرير ان تحقق الاسلام وسيادته يتوقف على نظام الخلافة يعتقد انصار الجمهورية ان تحقق الديمقراطية وسيادتها يتوقف على الجمهورية دون غيرها من اشكال الحكم،
ان الديمقراطية ليست ماهية يتلبس بها البعض ويحتكرها دون البعض الآخر فإن هذا المنحى يسقطنا في ضرب من الطائفية المغلقة وهي بالمثل ليست مجرد إجراءات فان ذلك يسقطنا في ضرب من النزعة التقنوية المتحررة من كل الاعتبارات القيمية، يمكن أن نجري انتخابات ويمكن ان نغير الاشخاص دون ان يؤدي ذلك إلى زوال الاستبداد وتحقيق اليديمقراطية وذلك سيكون موضوع حديث آخر إن شاء الله.