الحبيب بوعجيلة
(مجرد مقتطف من دراسة أعددتها منذ سنوات في قراءة للمنتوج الثقافي)
تداول المثقفون تصريحا للمدير “النيوليبرالي المعولم” لأيام قرطاج السينمائية ابراهيم لطيف أن الثقافة يسارية بالضرورة و ما قاله هو كلام حق أعلنه “منتحل صفة” من اجل غاية باطلة.
اليسار الحديث والمعاصر هو الانشقاق الاحتجاجي الفكري والوجودي على الخراب الرأسمالي وأعلى تجلياته الإمبريالية وصولا الى العولمة كمرحلة أعلى من الاستعمار القديم والجديد.
ضمن هذا الانشقاق كان انتاج القيمة عبر الفنون والإبداع الثقافي منذ بدايات الانتفاض الشبابي في الستينات في قلب المركز الاستعماري الغربي عبر ولادة الاتجاهات الفنية المعاصرة المتمردة على الكلاسيك البرجوازي.
في تونس يقترن ربيع الثقافة الوطنية في مواجهة الدولة الطبقية التابعة مع ازدهار يسار الحركة الطلابية أواخر الستينات وبداية السبعينات ومثلما ستستفيد الحركة النقابية والسياسية من مخرجات الجامعة ويسارها ستكون استفاقة الإبداع الثقافي يسارية وطنية بامتياز.
كان الشعر الطليعي المُجدد يحمل بصمات الفقيدين الطاهر الهمامي ومختار اللغماني وازدهر التجديد في المسرح مع الحبيب المسروقي ومنصف الصايم وتوفيق الجبالي وادريس والجعايبي والجزيري.
وفي السينما كانت أفلام “السفراء” و”سجنان” و”شمس الضباع” و”عزيزة” وغيرها من أفلام “ذات مضمون تقدمي” من انتاج خريجي الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة ونوادي السينما اليسارية وفي الموسيقى ترنم الشباب مع الهادي قلة ومحمد بحر والحمائم البيض.
اليسار (من حيث هو حلم شباب وطني طامح الى اقامة دولته الاجتماعية الديمقراطية ومن حيث هو ثقافة شباب مكافح من أجل استعادة مجد أمته المضطهدة والانخراط في حركة التحرر العربي والعالمي عبر الدفاع على الهوية والرموز الثقافية وتجديدها من داخلها) هو من أبدع في مواجهة ثقافة الاستهلاك والمسخ و التغريب والتبعية… ذاك هو اليسار الجدير بأن ننسب إليه الثقافة التي نريد.
النظام النيوليبرالي هو “سيستام” جهنمي يتمكن من اقحام الانشقاقات وتسليعها في سياقاته. هكذا فعلت ثقافة الاستهلاك الرأسمالي مع حركات “الهبيز” و موسيقى الخنافس والريقي حيث حولتها الى “موضة” ضمن دورة الانتاج الرأسمالي نفسه.
وهكذا فعلت دولة التسلط والابتلاع في تونس مع “ثقافة ومثقفي اليسار” حين حولت كثيرا منهم الى “أعمدة” في “ثقافويتها النيوليبرالية” فارتد “نوري بوزيد” في ريح السد وصفايح من ذهب عن “كفاحية يسارية” حاكمها ليردها الى “ابداعية ذاتوية” تبحث عن التناقضات في أعماق “النفس” لتحجب التناقضات في رحم المجتمع قبل أن تتحول السينما التونسية الى “كارت بوستال” غرائبية سحرية في المدينة العربي والحمام ننتجها لمركز “العولمة” الذي يحرص على ردنا الى فوضى “اثنياتنا” التي صهرتها “الوطنية” والذي يحرص على سجننا في عقدة “ثقافتنا” وتاريخنا حتى نخجل منهما في انتظار “الآخر” المنقذ.
تحول “يساري الثقافة الوطنية” الى “مسرح الغموض” و اللامعنى قبل أن يصبح مجرد “سينوغراف” للمزود والحضرة وأصبح الشاعر والأكاديمي مجرد “خادم للائكية الدولة الطبقية” بعيدا عن علمانية الدولة الوطنية الاجتماعية المفعمة بعزتها القومية تماما كما تحول السياسي والنسوي اليساري الاجتماعي الى مجرد “حقوقي معولم” مشغول بحقوق “المثليين” و”الاقليات الاثنية” و”نساء الجندر” في عملية اغتراب فكري رهيب عن أبجديات اليسارية الوطنية.