مهرجان قرطاج السينمائي أو إهانةُ الإنسان الحداثي
الدورة السابعة والعشرون لمهرجان قرطاج السينمائي وقد تزامنت مع الذكرى الخمسون لانبعاثه خلفت ردود فعل كبيرة وسلبية في عمومها وكان لكلٍّ منها موقف من وجهة نظر معينة وكانت أكثر المواقف استهجانا وامتعاضا هي تلك التي تعلقت بالظهور الجسداني لممثلات وفنانات في افتتاح الدورة المنعقد بقصر المؤتمرات بالعاصمة.
السينما هو واحد من أهم التعبيرات الفنية التي ابتدعها الإنسان واستوعب فيها بقية الفنون من رواية ومسرح وشعر واستعان فيها بأرقى التقنيات الحديثة في الصورة والإخراج والبث والإضاءة والخدعة، وهو عالم بذاته من حيث فضاءاته ومبدعوه وجمهوره ومن حيثُ كلفتُه أيضا إذ هو أكثر الفنون كلفةً مادية سواء تحملتها الدولة أو شركات إنتاج خاصة.
لسنا من أصحاب نظرية الفن للفن ولا من دعاة استعمال الفن للدعاية السياسة أو لإشهار بضائع مصانع أصحاب رأس المال، ولكننا مع آخرين كثيرين نؤمن بالوظيفة الإنسانية للفن في أبعادها الجمالية والتحررية والعاطفية والقِيمية بعيدا عن الصخب والإثارة والدعاية والتهريج وتساميا عن الإسفاف والإثارة الغرائزية وترفعا عن التحريض وتوليد الأحقاد ونوازع العنصرية والتسلط.
ما تركه حفل افتتاح الدورة الأخيرة بقصر المؤتمرات من استياء كبير في أوساط واسعة بسبب الاستعراض الجسداني لأغلب الفنانات المدعوات وبسبب ما عبر عنه مدير المهرجان من كونه يساريا يدافع عن خيار ثقافي يجعلنا نبدي ملاحظاتنا التالية:
ـ أولا: نحن نعتبر اللباس حرية شخصية لا دخل فيها للآخرين تماما كما حرية التفكير والتعبير والمعتقد.
ـ ثانيا: مهرجان قرطاج السينمائي هو مناسبة وطنية لتقديم صورة عن تونس الإبداع وتونس التاريخ وتونس “الإنسان” بما هو فن وفكرة وعاطفة وممارسة راقية تُنتجها الثقافة بما هي المابعد البداوة أو المابعد “الغريزة”.
ـ ثالثا: إن حرص المشرفين على الدورة على تقديم مشهدية جسدانية لا تعبر عن وعي بالإنسان ولا عن تقدير للمرأة ولا عن تجاوز لـ”مابعد” الغريزة والبداوة.
هل يعتقد هؤلاء بكون المرأة جسدا في عالم الأفكار والإبداع والمعارف؟ هل يعتقدون أننا في عصر يمكن للموز المسلوخ أن يُحدث انبهارا في عواطف الرجال تماما كما كان في عصر البداوة إذ يمكن لخصلة شعر أو أرنبة أنف أنثى أن تفجر كوامن المشاهدين المعقّدين؟.
إن هؤلاء إنما يُهينون أنفسهم ويُهينون المرأة ويُهينون “الحداثة” التي يزعمونها حين يقدمونها في هيئة “قَدّ ممشوق” أو “مناطق متفجرة” من الشهوانية والرغبات الإلتذاذية والليبيد المخزون.
لقد ابتدع رأس المال الجشع فنون الإشهار واستعمل فيه المرأة كمحفز للغرائز وللدوافع الإستهلاكية حتى أصبح جمال الفتيات يُستعمل على عُلب البضائع ومواد التنظيف ومختلف المنتوجات المهددة بالكساد.
هل تتحول مناسباتنا الثقافية الهامة إلى محطات للاشتراك في خدمة رأس المال الجشع ولإهانة الثقافة والمرأة والحداثة؟.