بعد ساعات من الآن سيتحرك، في مجموعات صغيرة، حوالي ألف من الرجال حاملين بعض البنادق والقنابل وكثير من الأسلحة البيضاء، وليبدأوا، تحت صيحات الله أكبر، هجوما غير مسبوق على مراكز للشرطة وللمستوطنيين الفرنسيين في عدة قرى ومدن جزائرية.
سيخلف الهجوم، إضافة إلى عدد من القتلى والجرحى، صدمة شديدة في الأوساط الإستعمارية الفرنسية التي لم تستوعب الضربة ولم تتوقعها إطلاقا، خاصة وأنها كانت قد ضمنت دخول عدد من الشخصيات و القوى السياسية الجزائرية إلى “لعبة الإنتخابات”، التي كانت قد تمخضت عما سمي بالإصلاحات السياسية في الجزائر بعد إنتفاضة ماي 1945.
ومما عمق الصدمة لدى كبار ساسة الإحتلال، أن القوى الجزائرية “المتطرفة”، المنضوية تحت التيار الوطني بقيادة الزعيم مصالي الحاج، كانت تعاني من إنقسامات وصراعات شديدة وصلت لحد التصادم العنيف…
إذا من يكون وراء هذه العمليات”الإرهابية”؟ غير المسبوقة، حجما وعنفا وإمتدادا، عالية التنسيق والتخطيط، في بلاد تخضع لإحتلال إستيطاني منذ ما يقارب 125 عاما؟
في بلاد كان بارود “الآهالي” قد صمت فيها، منذ ما يقارب نصف قرن، وبدا أن أهلها قد إستسلموا ل”قدرهم”، فرنسا النصرانية، التي إستعبدتهم وقهرتهم وقتلت منهم الملايين عبر السنين؟
في بلاد هي جزء لا يتجزأ من الآراضي الفرنسية حسب الدساتير الفرنسية؟
لم تكن القوى الأمنية للإمبراطورية الفرنسية على علم بإجتماعات، بدأت في مارس 1954، وضمت عدد من الوطنيين إلتئموا في تنظيم ثوري جديد سمى “اللجنة الثورية للوحدة والعمل”، والتي ظهرت كطرف ثالث، ردا على الإنقسام الذي حدث لحزب الشعب الجزائري بين المصاليين والمركزيين.
توالت الإجتماعات وضمت إحداها 22 ثائرا، أغلبهم من قدماء المنظمة الخاصة، تعاهدوا على حمل السلاح لدحر الطغيان الإستعماري، وكتبوا وثيقة عرفت ببيان أول نوفمبر، ومن بين ما جاء في البيان:
“تحقيق الإستقلال الوطني بواسطة:
1. إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الإجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
2. إحترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.”
إستلم قيادة التنظيم الذي أطلق عليه إسم جبهة التحرير الوطني، 9 ممن عُرفوا بشراستهم في مواجهة الإجرام الفرنسي 6 في الداخل هم:
مصطفى بن بولعيد قائد الأوراس، الولاية الأولى.
مراد ديدوش، قائد الشمال القسنطيني، الولاية الثانية.
بالقاسم كريم، قائد القبائل، الولاية الثالثة.
رابح بيطاط، قائد الوسط، الولاية الرابعة.
محمد العربي بن مهيدي، قائد الغرب الوهراني، الولاية الخامسة.
وأُسند التنسيق العام لمحمد بوضياف.
بينما أوكلت القيادة الخارجية لكل من حسين آيت أحمد، محمد خيضر وأحمد بن بلة، وكانوا جميعا مقيمين في مصر.
ولتندلع، ولأكثر من سبعة أعوام، واحدة من أكبر الثورات المسلحة في القرن العشرين، تمكنت رغم المصاعب الجمة، من إستعادة الجزائر بعد أن ظن الكثيرون أنها لن تعود لأبناءها أبدا، كما حدث لأمريكا الشمالية التي إستوطنها الغزاة البيض وأنهوا وجود أهلها إلى الأبد.
لكنه كان إستقلال منقوصا منذ البداية، فقد وقعت جملة من الأحداث تمكنت معها جماعة واحدة، عُرفت بجماعة وجدة، من السيطرة، قهرا وقسرا، على البلاد ففرضت رأيها المستبد على ملايين الجزائريين، بمن فيهم عشرات الآلاف من المجاهدين الذين ضحوا بأعز ما يملكون من أجل الوطن…
والذي رفض منهم هذا القهر، ناله العذاب في السجون أو أعدم أو شُرد في المنافي، ومنهم من لم ينجو حتى وهو بعيد عن هذه الأرض الطيبة فتتبعته آيادي الغدر لتسكته إلى الأبد.
وأصبحت الجزائر مستقلة عن فرنسا ولكنها إنتقلت، لترزح تحت قهر بعض أبناء الوطن لكل الوطن لما يقارب الثلاثين عاما، قبل أن تصل إلى الحكم جماعة “كبرانات فرنسا”، وهي أشد بشاعة وأكثر إجراما ممن سبقتها، جماعة ظلت في حالة كمون حتى تمكنت من أمر الحكم ولتذيق الجزائريين عذابا أليما وتجعل من حياتهم جحيما ومن وطنهم سجنا كبيرا يود أبناءه الهروب منه ولو لأقاصي الدنيا.
ولتتحالف الجماعتان في 1999، فتلد حكما ممسوخا يقوده شخصا متعاليا متعجرفا هو أقرب إلى الدجل منه إلى أسوياءالبشر وقد ظن أن من بعده الطوفان.
فها هو الوطن يجد نفسه بعد 60 عاما على ثورته العظمى كسيحا، مكبلا، أسيرا في أيدي عصابات جاهلة، ناهبة، متجبرة ومستعدة لكل الخيانات، من أجل أن تظل في الحكم ولو كان ذلك بفتح أراضي وأجواء وكنوز البلاد، بلا حدود ولا قيود، للمستعمر القديم… والمستعمرون الجدد…