محمد بن نصر
أنهيت اليوم قراءة كتاب مضايا، صراع الذاكرة والجدار، لكاتبه مراد العوني العبيدي، وكان من المفروض أن أنهيه منذ فترة ولكن حالت دون ذلك ظروف طارئة. أنهيت القراءة وأنا بصدد متابعة معاناة الأخ منجي الصيد و مأساته، فكنت أقرأ المنطوق وأرى المتعيّن وبقدر ما أجد نفسي متماهيا مع المنطوق المعاش، متألّما ومنتشيا بانتصار البطل مراد على من أراد تحطيم شخصيته بانتصاره على نفسه انتصارا فريدا من نوعه وهذا تحديدا ما يميّز هذا الكتاب، بقدر ما أشعر بالعجز بل بالجبن والقهر وهنا أتكلم بضمير المفرد و أعبّر في ذات الوقت عن ضميرنا الجمعي الذي كان يقظا فطنا متلاحما ملتحما زمن المحنة وأصبح اليوم متكلسا عديم الإحساس لا يثيره ألم المتألمين ولا عذاب المتعذّبين.
تساءلت ما فائدة الكلام حين تعجز عن الفعل؟ حتى وصلت إلى هذه الفقرة التي خطها الأخ مراد في صفحة 96 “إلى اليوم أرى بأم عيني كل شئ بالمقلوب من كان يُعذّب تُعلّق له الأوسمة! ومن كان على كتفيه خيط صار يحمل نجوما ذهبية… غير مفهوم أن يُكافأ الجلاد وهو من أخطأ! وإلى اليوم مِن سُجن يُسلب من حقه وهو ممنوع من الكلام ويُسبّ جهارا ليصمت… نحن نكتب ليس لإشاعة الفوضى ولكن من حقّنا أن نفهم، نحن لسنا تابعين لأي كان… أنا مواطن تونسي ورقم بطاقتي بضعة أرقام وأصفار.. لا يهم أن تعرف ديني أو لوني أو جنسي.. المهم أنّه أُعتدي على كرامتي وسرقوا منّي ما تبقى من العمر، هل أُخبر عن نفسي أم أصمت؟؟؟ وهل تشهد أنّه من حقي أن أصرخ، حتى يصمت من ينهق في التلفاز كل يوم أنّني أحمق وأنّني أسرق… لن أشهر سيفا ولن أقتل.. إنّني إلى اليوم أحمل القلم لأكتب فتقرأ لتشهد…”.
تناول الكاتب فصولا مؤلمة من التحطيم المُمنهج للذات الإنسانية في السجن، تحطيم طال السجين وطال كل محيطه القريب والبعيد، تحطيم لأحلامه، لذاكرته لكل شئ فيه يحمل معنى الحياة.
ركز في هذا الكتاب على فئة ضاعت في الزحام، لم تنتبه إليها عدسة التصوير المشغولة دوما بغيرها، فئة التلاميذ والطلبة الذين اقتلعوهم من مقاعد الدراسة وزجّوا بهم في دهاليز الداخلية وعندما “خرجوا” من السجن وجدوا أنفسهم قد تقطعت بهم الأسباب. كانوا شعلة تتقد فوجدوا أنفسهم رمادا يُداس، كانوا يحملون الراية فصاروا عند البعض ممن أصبحت لهم بهم راية عبئا ثقيلا يجب أن يُزاح. وقت السادة ضيق لا يحتمل الحديث في الماضي لأنّه يُغضب جلسائهم من حلفاء الحاضر.
لا أدري لماذا جال بخاطري مقارنة الأهوال التي كانت تحدث في السجون التونسية مع ما تعرض له المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية فوجدت أبا لهب وأبا جهل على خلق كبير مقارنة مع هذا الصنف الذليل من البشر الذي أسند إليه مهمة تحطيم الإنسان فانتقم لنفسه بممارسة أشد ألوان الوحشية على سجناء الرأي تنفيذا لأوامر أسياده عبيد أسيادهم. ما فعله أبو لهب في حق نبي الرحمة وهو في حده الأقصى أقل بكثير من الحد الأدنى الذي تعرض له السجناء في السجون التونسية فكان جزاؤه التصلية بالنار. بالله عليكم ماذا سيكون جزاء من تداولوا على اغتصاب تلميذة تحت التعذيب ولما حملت منهم سفاحا ترجتهم أن تسقط الجنين فيقاضونها بالاستسلام لهم ثانية؟ أي نوع من البشر هؤلاء و ماذا سيكون جزاؤهم؟ ما سيكون جزاء من أذاق الإنسان السجين كل أنواع الإهانة فابتدع “طبّس-كح” إمعانا في الإذلال؟ إذا كان ما عاناه المسلمون الأوّل قد زلزلهم حتّى تساءلوا متى نصر الله؟ فماذا يقول من تعرضوا لمثل هذه الفظاعات في عصر سمّوه عصر حقوق الإنسان.
السجن كما جاء في هذه الشهادة ليس عقوبة محدودة بالزمن وإنما سلسلة من العذابات التي تبدأ قبله وأثناءه وبعده، يقول الكاتب في 110 “إيّاك أن تُفكر أو أن تحصر الجلاّد في شخص من عذّبك… الجلاّد هو ذاك الذي يقتلك منذ الصغر، ودمّر أحواشا بنيناها، وفرّق بين عروسة وعريس، وبعثر كل المواعين. واقتلع سور المسجد الذي بنيناه في القرية من أعواد النخيل، وحمل بوق الآذان وقال ملك للضيعة من عهد المستعمر زمن فرنسا.”.
سجين الرأي لا يخرج من السجن أبدا إلا إذا انتصر على نفسه واستطاع أن يفتح ملف جراحاته الدفينة فيبسطها ناظرا فيها ومتأملا، شاهدا على الفظاعات التي يتعرض لها الإنسان من أخيه البشر. في هذا الكتاب استطاع الكاتب أن يتحكم في آلامه لا أن تتحكم فيه، فتحرر منها أو يكاد. بقدر ما يكون الفارق بين ما يعبّر به الإنسان مع نفسه عن نفسه وعن الآخرين وما يعبّر به عن نفسه وعن الآخرين أمام الآخرين، ضئيلا، بقدر ما يكون متوازنا نفسيا ومنتجا عقليا. ذلك ما يميّز بالفعل هذا الكتاب من غيره فهو كما قال عنه السيد محمد كمال الحوكي في تقديمه له “أراه (الكاتب) غمس قلمه في عروقه وكتب بدمه ليدّخر دماء إخوانه، وقد تصدّى لما غفل عنه الكثير”.
هذا السجن الكبير الممتد في الزمان وفي المكان وهذا الاستهتار بالذات الإنسانية المتواصل بل التبجح بإهدار كرامتها، جعل الكاتب ينتهي إلى أن “طبيعة انقراض الدكتاتورية وولادة فكر جديد، لا يكون عبر التسامح… أبدا… فصناعة التاريخ لا يمكن أن تُحاك خيوطها بجنود الظلام ودهاليز الاستعمار، والتأسيس لحقب جديدة لا يكون إلا بمسح عقاري لكل الكائنات، إما أن تتوب عن أفعالها وإما أن تُنفى عن بكرة أبيها. لأنّ الأرض الملوثة بالفطريات لا يمكن أن تجود بزرع ينبت حبا وحصادا”.
عموما لغة الكتاب راقية ولكنّها ليست بنفس الحبكة في كل فصوله، بعض الأخطاء الإملائية والأسلوبية تُصادفك هنا وهناك. الصفحات 116-124 أقحمت إقحاما، مبنى ومضمونا، فهي أقرب إلى الكتابة الفكرية منها إلى الأدبية.
كتاب يجب أن يُقرأ حتى لا تُطمس الحقيقة وحتى لا يعود الاستبداد ملتحفا بالنسيان بل يجب أن يُترجم حتى يعرف من لا يجيد لغة الضاد ماذا كان يحدث في بلد قيل عنه إنّه يرقص ويغني، من أهوال للإنسان ولعله مازال يحدث.