منير الجلاصي
عندما باحت الانتخابات المغربية بنتائجها كثرت التأويلات لنتائج هذه الانتخابات وخاصة داخل التيار الإسلامي التي اعتبرت في المجمل أن نتائج هذه الانتخابات هي إعادة بيعة لحزب العدالة والتنمية ومكافأة له على الحصاد الذي زرعه طيلة مدة حكمه النيابية. وذهب البعض إلى اعتبار أن التجربة المغربية ممثلة في حكم حزب العدالة والتنمية تكاد تبقى الشمعة الوحيدة من شموع الربيع العربي وهي شمعة صمدت أمام الثورات الارتدادية رغم أنها لم تكن تمثل فرصة كاملة بل كانت بمثابة شبه الفرصة في مقابل ذلك تكاد تهدر فرص في مناطق أخرى بالرغم من أن التحولات التي وقعت في تونس أو في مصر كانت تمثل فرصا أفضل من الفرصة المغربية مما حدا بالبعض إلى التساؤل “لماذا تتجه عملية الانتقال الديمقراطي في المغرب نحو النجاح ولماذا تتجه ثورات الربيع العربي في غيرها من المناطق وخاصة في تونس نحو الانتكاس؟”
الحقيقة أن هذا السؤال هو سؤال ذو خلفية “غرامشية” والحقيقة أن سؤال غرامشي مثَّل نقلة نوعية في طرح السؤال وقدم مساهمة نظرية جديدة للممارسة الثورية حيث حرر الممارسة الثورية من فتنة النموذج البلشفي وذلك لأن مفكري اليسار في العقد الثاني من القرن العشرين كانوا يفكرون في التحولات الثورية انطلاقا من النموذج البلشفي وكانوا يعتقدون أنه لا سبيل لتحقق ثوري تنتقل بمقتضاه بعض المجتمعات الغربية من نمط عيش إلى آخر إلا بثورة على النموذج الفرنسي أو النموذج الروسي فكانت هذه المحاولات تبوء بالفشل، غير أن غرامشي عوض أن يطرح السؤال “كيف نحقق ثورة على المنوال البلشفي؟” طرح سؤالا آخر عُدّ ثورة في عصره بل عد ثالث ثلاثة ماركس، لينين، غرامشي نتيجة التجديد الذي أدخله على النظرية الماركسية، تفطن غرامشي إلى أن هناك اختلافات جذرية بين المجتمع الروسي أثناء قبام ثورة أكتوبر والمجتمعات الغربية، فالمجتمع الروسي كان يفتقر إلى مؤسسات مجتمع مدني ناضجة وقوية وفاعلة فلم يكن بين الثوار والثورة إلا المجتمع السياسي فما إن تمَّ تقويض المجتمع السياسي حتى قامت الثورة. في مقابل ذلك فإن المجتمعات الغربية يوجد فيها مجتمع مدني قوي، ناضج و فاعل قبالة المجتمع السياسي ولهذا السبب فإن تحطيم المجتمع السياسي لا يؤدي بالضرورة إلى قيام ثورة في هذه المجتمعات ولهذا السبب اعتبر غرامشي أن الثورة لا يمكن أن تقع في المجتمعات الغربية على نحو ما وقعت عليه في روسيا، فالثورة في الغرب يجب أن تتم بالتدريج ومن خلال استراتيجيا التموقع، سواء تم هذا التموقع في المجتمع المدني أم تم هذا التموقع في المجتمع السياسي، فالثورة هنا غير الثورة هناك نتيجة اختلاف المرحلة التي يمر بها كل مجتمع.
نحن في حاجة إلى استعادة الروحية التي طرح بها غرامشي اشكالية التحول الثوري في أوروبا حتى ننظر إلى اشكالية الانتقال الديمقراطي واضعين نصب أعيننا خصوصيات البلدان وآفاق التحول في كل بلد وإمكانات التدخل الخارجي لعرقلة مسار هذا التحول في تشخيص أسباب نجاح التجربة المغربية يغفل الكثير ممن يتحدث عن نجاح هذه التجربة عن ذكر مؤشرات نقيس بها هذا النجاح، لأن المعايير التي نقيس بها نجاح تجربة ما قد تكون اختلافية ولهذا السبب فإن الحديث عن نجاح تجربة دون تحديد معايير ثابتة ودقيقة قد يكون مجرد حديث فضفاض. الأمر الثاني الذي نقف عليه ونحن نتحدث عن نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب نعزو هذا النجاح إلى الخصال التي يتميز بها قادة حزب العدالة والتنمية من تواضع وصراحة ومسؤولية والتزام بالعهد وصرامة، هذا العامل يمكن أن يكون حمال أوجه أي يمكن في مستوى أول أن يكون تعبيرا عن واقع حال وهو واقع يمكن أن يكون مساهما في نجاح تجربة وهو أمر لا ينكر فمهما قيل عن موت الإنسان وعن طغيان المؤسسات وعن حتمية القوانين فإن ذلك لا يمكن في مطلق الأحوال أن ينفي قيمة العوامل الذاتية في تحقيق تحولات نوعية في تاريخ الأمم والشعوب ولكن تبقى مع ذلك هذه العوامل بالصيغة التي نعبر عنها صيغا أخلاقية.
الوجه الثاني أن التأكيد على المزايا الأخلاقية لقادة حزب العدالة والتنمية قد يفهم منه على أنه تصفية حساب مع قادة الحركات الإسلامية الأخرى فالتأكيد على تواضع قادة حزب العدالة والتنمية إنما هو تعريض بتكبر واستعلاء غيرهم من قادة التيار الإسلامي في مواقع أخرى ولكن هذا التحليل الذي يرد نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب وفشل أو الاتجاه نحو الفشل بالنسبة للتجارب الأخرى قد يهمل معطى أساسي بين هذه التجارب المختلفة والمفروض أن من يطرح سؤاله في صيغة غرامشية أن يكون واعيا بالاختلافات الموضوعية التي تتنزل فيها تجارب الانتقال الديمقراطي المختلفة وهذا الوعي بالاختلافات هو الذي يفتح امكانات الممارسة الثورية.
هناك اختلاف كبير بين التجربة المغربية من ناحية وتجربة الانتقال في تونس أو في مصر. فتجربة الانتقال في تونس كانت تجربة انتقال بلا سقف فلم يكن المتنافسون السياسيون يتحركون داخل ديمقراطية عريقة ومستقرة واضحة فيها قواعد اللعبة حيث على الجميع أن يحترم هذه القواعد بل إن هذه الديمقراطية الناشئة والتي يتنافس فيها خصوم سياسيون لم تتحدد بينهم قواسم مشتركة عدى رفض الاستبداد فإن المتنافسون السياسيون كانوا يبحثون عن وضع قواعد هي التي بمقتضاها ستتم الممارسة الديمقراطية. في مقابل ذلك تبدو التجربة المغربية بمثابة ديمقراطية مستقرة دون أن تكون كذلك فهناك سقف لا يمكن لأي طرف من الأطراف تجاوزه وهو القبول بسيادة الملك وكل من لا يقبل بهذا المبدأ يجد نفسه خارج اللعبة السياسية مثلما هو الشأن بالنسبة لحركة العدل والإحسان التي رفضت هذا السقف مما يعني أن الديمقراطية المغربية لا يمكن أن تتجه إلى المدى الأقصى حيث تعبر عن الإرادة الشعبية ولعله لهذا السبب يمكن أن يدخل حزب العدالة والتنمية في صراع مع الملك إذا رأى أن يرفع السقف ولهذا السبب تبدو هذه التجربة ناجحة مقارنة بما كان عليه الأمر في عهد الملك الحسن الثاني ولكنها بالمعايير الديمقراطية وبما تفترضه الديمقراطية من سيادة شعبية تبدو هذه التجربة ملكية مطلقة مقنَّعة على احتواء تطلعات أو مطامح لا يمكن أن نقاومها فنقوم بتشويهها ولهذه الأسباب مجتمعة وإذا كنا لا نريد الغرق في التشاؤم الذي تفرضه علينا ارتدادات الربيع العربي فإن الأمر يقتضي كذلك الحذر من التفاؤل حتى لا نقع في الإحباط.