تجربة معلم (2)
رحلة الـ”404 باشي” مع الماعز…
كنت أشتغل في ريف يبعد عن مركز الولاية 120 كلم. في نهاية الأسبوع قررت “التمدن” والمبيت في ضيافة صديق لي. كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال وقبل الخروج من البيت كنت فاقدا لأي أمل في وجود سيارة توصلني ولكن الرغبة في الخروج من ذلك المكان الممل جدا كانت تدفعني إلى المحاولة. فاتني أن أصف لكم الهيئة التي كنت عليها حينها: شاب في الرابعة والعشرين من العمر يرتدي -إقرؤوها كما هي- “كومبلي” وربطة عنق ذهبية اللون وحذاء أسود مرت عليه ذرات “السيراج” يومها بعد أن كاد يفقد كل صلة بالأحذية ويعلو الجميع نظارات شمسية سوداء اللون يستظل بظل علامة “مرحبا بكم في…” في غياب الأشجار وارفة الظلال في ذلك المكان.
طال الإنتظار وبدأ اليأس يدب إلى نفسي لولا صوت انبعث من آخر الريف. إنه صوت 404 “باشي” قاهرة الصحراء. وأخيرا سأذهب، وأخيرا سأشاهد البنايات الكثيرة والشاهقة، وأخيرا سأتناول خبزا طريا نضج قبل ساعة أو ساعتين وليس قبل يوم أو يومين، وأخيرا سأنام على أصوات السيارات لا على أصوات الكلاب والذئاب. لم أصدق الموقف: لقد صارت السيارة أمامي حقا، ولكن…
في الأمام يجلس ثلاثة رجال -ماشاء الله- ليس للذبابة معهم مكان فكيف بي!!! -السلام عليكم – عليكم السلام ورحمة الله- توصلونني معكم إلى…؟ – “من قدام معبية اطلع من تالي كان حبيت”. للعلم أنهم لن يسلكوا الطريق الرئيسي بل سيذهبون من طريق آخر “قصة عربي” بما فيها من عذاب صعودا ونزولا. ابتهجت “مترا ونصف المتر فقط” مسافة النظر لمؤخرة السيارة. لماذا؟ لأن في مؤخرة السيارة 5 نعجات و7 عنزات و”جديين” هما أقرب إلى “التياسة”بروائحها “الجذابة المنعشة”. لم يكن الأمر يتطلب أكثر من ثانية واحدة لأخذ القرار “الصعود والتمدن لمدة 48 ساعة أو البقاء.” لقد صعدت بتلك الهيئة ومع جمع الحيوانات رغما عن نفسي، ثم بدأت رحلة أخرى من تجربة الجلوس مع الحيوانات…
المشهد كان كالتالي: هذه تعض السروال والأخرى تشد المحفظة وثالثة تتشمم بقايا “السيراج” على الحذاء و”جدي” يحك جلده علي كأنني عمود أرسله الله إليه. لقد كان الصبر عنوان المائة وعشرين كيلومترا وروائح الماعز والنعاج هي الزاد. لقد ظننت أني في رحلة إلى أحد كواكب المجموعة الشمسية لطولها، لكن رغم كل ذلك وحين أتذكر ما تركت خلفي كان يُخيل إلي أني أركب مرسيدس أو هامر أو إحدى الأنواع الفارهة.
وبين هذه الأفكار وتلك لاحت من بعيد العمارات والبناءات والأشجار فبدأت أنفض الغبار عن ثيابي التي بدت مثل راع يرعى خرافه على ظهر سيارة. وقبل كيلومترين من الدخول إلى المدينة استوقفت السائق الذي شكرته على الرحلة الممتعة في عمقها فرد علي بالإعتذار لأن المكان لم يكن سانحا لركوب أربعة أنفار. لقد زودني بقارورة ماء لا يمكن شربه ولكني استعملتها للإغتسال. لقد كان القليل من الماء وورقة كافيين لإزالة ما علق بالثياب من شوائب الماعز والنعاج و”الجديين” وقليل من العطر كاف للحصول على رائحة منعشة ومشط استخرجته من محفظتي كاف لتسريح شعري وتنظيمه.