محمد المولدي الداودي
في فترة التسعينات كان الإعلام الرّسمي العربيّ يصف المقاومة الإسلاميّة بلبنان بالمقاومة الوطنيّة إدراكا لما تحمله العبارة من امتدادات سياسيّة وكانت الأحزاب اليساريّة والقوميّة منشدّة لرؤاها الإيديولوجيّة ومنها احتكار الفعل الثوري التحرري ووسم بقيّة الحركات الإسلاميّة سياسيّة كانت أو مقاومة بالرجعيّة وكانت الحركات الإسلاميّة في تلك الفترة تصارع من أجل ترسيخ مقولاتها في أرض صعبة وقاسية وفي ظلّ فضاء سياسي عالمي يرفضها. وفي الوقت التي تراخت فيه كلّ الحركات القوميّة واليساريّة والليبراليّة وتحوّلت إلى مؤسسات حكم استبدادي مشفوع بتزكية غربيّة كما تراجعت كل هذه الحركات عن فكرة المقاومة (الفعل الثوري المسلّح) واستسلمت لفكرة التسويات الجاهزة عالميّا. في تلك الفترة أحيت الحركات الإسلاميّة فكرة المقاومة المسلّحة في لبنان وفلسطين وكان الكثير يسخر مما تصنعه هذه الحركات.
في تلك الفترة من التاريخ لم تتشّكل بعد عناصر التشكيل المذهبي لتلك الحركات ولم يكن معلوما عند الكثير من العرب الخلفيات الفكريّة والتوجّهات الإيديولوجية فقط كانت فكرة المقاومة هي الفكرة الجامعة.
وفي تلك الفترة من التاريخ أيضا سعى مفكّروا التيّار الإخواني للتقريب بين المذاهب الإسلامية تجميعا للأمّة ودرءا للفتن وصاروا وحيدين في هذه المسالك وأنشؤوا المؤسسات العلميّة والبحثيّة وساروا في كلّ سبيل يوحّد الأمّة غير أنّ إيران كانت مدفوعة بحلم تصدير الثورة وعملت على تقوية الكيانات المذهبية غير السنيّة ضمن إطار هيكلي معزول عن الدولة ومنفصل عنها ومن خلال هذا التصوّر نشأت ظاهرة حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن وفيلق بدر في العراق وغيرها من الكيانات وسعت إيران إلى تشكيل حزام دعائي من المذهب السنّي ومنه خاصّة حركات المقاومة غير السلفيّة.
ارتبطت مواقف حزب الله بالمواقف الإيرانيّة إقليميا وعالميّا وصار علامة من علامات الحضور الإيراني في الفضاء الجغرافي والسياسي العربي وأضحى دولة لها سلطتها وقوّتها ومؤسساتها وجندها وسياساتها بعيدا عن سلطة المركز… في الضاحية الجنوبيّة عالم مغلق وسلطة لجماعة متحرّرة من سلطة الدولة.
في زمن الهزائم وعمالة الأنظمة برزت جاذبيّة حزب الله ومعه حركات المقاومة السنيّة غير السلفيّة وأحسن الحزب إدارة الشأن الدعائي وأخفى ملامح الحضور المذهبي وانشدّ سياسيّا إلى محور أوحى للناس بمواجهة الكيان الصهيوني ومقاومته (سوريا وإيران وحركات المقاومة المسلحّة في لبنان وفلسطين). وبذلك اكتسب الحزب بعدا شعبيّا عربيّا بلغ ذروته في حرب 2008.
ما “حرّره” حزب الله في حروبه مع الكيان الصهيوني لم يكن إلاّّ فضاء للتوسّع الحزبي جغرافيّا وديمغرافيّا وإعلاميّا فلا سلطة للدولة على ما تحرّر ولا وجود فعليّا لها وضمن هذه الاستراتيجيا حقق حزب الله امتدادا عسكريّا وسياسيّا ولم ينكشف بعد قناعه المذهبي الذي شكّل نواة التماسك الفعلي للحزب وعنصر الانجذاب الحقيقي وهو ما دفعه نحو الحليف السوري ليمرّر سياساته في لبنان.
سنة 2011 كانت علامة فارقة في الواقع العربي حيث انهارت أنظمة قمعيّة استبدادية قهرت شعوبها وكانت صورة للحضور الغربي الامبريالي وصورة للحضور الصهيوني تطبيعا ومهادنة وتشاركا اقتصاديّة ولم تسقط تلك الثورات أنطمة وقادة فقط وإنّما أعادت طرح سؤال المقاومة فقط انكشفت علاقات حزب الله بنظام ابن علي في تونس في مستوى الدّعاية والإعلام ثمّ انكشفت الروح المذهبيّة الغالبة على كيان الحزب ورؤاه… وفي الملف السوري اختار حزب الله الوقوف مع النّظام وتدخّل عسكريّا ليتحوّل إلى آلة قتل عمياء لشعب ثائر طالب بالحريّة والكرامة.
في الملف السوري اختلفت المقاومة السنيّة عن المقاومة الشيعيّة واختارت حماس الفلسطينيّة الوقوف مع الشعب الثائر واختار حزب الله الوقوف مع النظام القاتل ثمّ دفعه الهوس المذهبي إلى القتال في كلّ موضع فيه طائفة شيعيّة فناصر الحوثيين في اليمن وحارب في العراق.