آخر مواسم صيد القمل
عبد السلام خليفي
عن بداية الثمانينات أحدثكم، حيث دخلت المدرسة وأنا صغير، حينها كانت تونس على صفيح ساخن بعد أن هرم الأسد المزعوم وتداعت على قصعته الضباع من كل جانب، وتلك القصعة لم تكن سوى تونسنا الحبيبة. كان المعلمون والمدير يأتوننا عادة من كوكب صفاقس أو كوكب الساحل، لا يشبهوننا في شيء، وهذا ليس استهانة بهم، فهم من علمونا أبجديات الحياة وفتحوا عقولنا على نور المعرفة، بل أن ذلك قد يحسب لهم لأنهم تحملوا معنا أذى الطبيعة وقساوتها دون تذمر.
كان المدير يأتي إلى الأقسام بحثا عن المحتاجين حتى يتم تسجيلهم في وجبة يطول وصفها ووصفها قد يثير القرف لدى الكثير من الأصدقاء، سأكتفي بالقول أن الحارس يجلب الخبز مرة في الأسبوع على ظهر بغلته من مسافة لا تقل عن عشرين كلم، ويظل التلاميذ يقضمونه كما الفئران لقساوته، ولكن آخر ما تفكر فيه هو أن تجد من يلقي برغيف ولو صغير إما شبعا أو تعففا.
قلت يأتي المدير الذي لا يعرف شيئا عن ظروف الأهالي مصحوبا بإبن حارس المدرسة الشاب المتزلف، فيختار هذا الأخير أبناء أحبابه وأصدقائه أولا، ثم يوزع بعض الحصص على من تبقى من مستحقيها، كان الماء يأتي للمدرسة على متن البغلة من مسافة تزيد عن العشر كلومترات وكنا نشرب تحت رعاية الحارس حتى لا نبذر الماء ولا نؤذي بعضنا البعض، فلحظة الحصول على الماء هي من أندر اللحظات، ففي البيوت لا مصدر للماء سوى المواجل القديمة وبقايا مياه الأمطار، حيث تنزع الأم لحافها الأحمر وتضعه على فم الجرة حتى تمنع تسرب الحشرات المائية إلى إنائها وما أكثر تلك الحشرات، أعود للمدرسة لأقول بأن مقياس اختيار شخص من عدمه للحصول على الأكلة ليس سيارة رابضة أمام منزل الوالد ولا قطيع من الغنم والماعز له أول وليس له آخر، المقياس سادتي هو: هل يمكن لهذا التلميذ أن يجلب رغيف كسرة من المنزل أم لا، فعندما تتناول وجبة العشاء تأكد أنك أضعفت فرصتك كثيرا في الحصول على وجبة الغداء لليوم الموالي والعكس صحيح … ما يشد الانتباه حقا هو أن مدرسينا الأفاضل وعلى طراوة بشرتهم، يتحملون معنا كل هذه المعاناة بصبر لا يصدق: شح الماء، غياب الطريق، غياب المواصلات، شح الطعام… كانوا يفعلون ذلك بغبطة لا تضاهيها غبطة.
في الأثناء: كان بورقيبة وجماعته ينصبون الفخاخ في رؤوس الفقراء لاصطياد ما تبقى في أجسادهم من قمل، فحملة اصطياد القمل قد شارفت على نهايتها ولابد من النجاح في استئصال الآفة وربح الحرب.
أولئك المعلمون هم من نزعوا عنا القمل فعلا بتضحياتهم، عندما كان بورقيبة يمارس هواية شم التفاح في نشوة عارمة.