بلغيث عون
فائض من الهوس بقصة الشيعة والسنة أراه لدى كثير من الأصدقاء يصب في المعنى التالي: السنة يتجنون على الشيعة ويكفرونهم في الوقت الذي هم فيه أبدعوا ثورة لم يبدعها السنة ويقفون اليوم في محور مقاومة ظهرت ثمراته من 2001 في لبنان وحتى فكرهم النقدي متقدم على الفكر السني، بينما السنة بالمقابل أبدعوا الوهابية والإرهاب، داعش وأخواتها، إلخ. لنكن دقيقين بشأن الشيعة والموقف المنحدر يوما بعد يوم منهم:
– لم تبلغ العلاقة بين السنة والشيعة مبلغها السيء لسبب معرفي ولاختلاف العقائد حد التصادم في مسائل عدة؛ إنما ساءت العلاقة على وقع الإصطفاف السياسي والتموقع الرديء للشيعة منذ حرب أفغانستان بشكل خافت ثم الإحتلال الأمريكي للعراق واصطفاف الشيعة لجهة السلطة المدعومة أمريكيا والسنة لجهة المقاومة ثم القطرة التي أفاضت الكأس الإصطفاف القبيح للشيعة مع حزب البعث السوري. الشيعة الذين تشتد ضدهم الحرب الكلامية اليوم وتنصب عليهم أبشع النعوت ليسوا بالضبط أصحاب العقائد المرفوضة سنيا بالتأكيد، بل أصحاب المصالح الغالبة على المبادئ والتي انتهت بهم معتدين وظلمة وقتلة.
– قبل ذلك ظلت العلاقات سلمية بل ورفيعة رغم معرفة الجميع بالمسافة العقدية الكبيرة بين الطرفين ورغم الحاجز النفسي التاريخي بينهما. لا نتحدث فقط في تونس حيث لا شيعة تثير لدينا النعرة ضدهم (وحيث صفقنا للثورة الإيرانية وقرأنا وتأثرنا بالمفكرين الإيرانيين في الفكر السياسي والفكر الفلسفي والفكر عامة مثل علي شريعتي ومطهري والشهيد محمد باقر الصدر وغيرهم) بل أيضا في الشرق حيث يعيش السنة والشيعة جنبا لجنبا ويصلي الإخواني “فتحي يكن” بالشيعة في الميادين العامة في لبنان وتضع حماس الإخوانية يدها في يد إيران وحزب الله.
– المعادون للشيعة عقديا في ذلك الوقت لم يكن لهم من صوت يسمع على وقع انتصارات حزب الله في الجنوب وعلى وقع الصمود الإيراني في دعم المقاومة. المعادون عقديا هم طبعا ما نسميهم بالسلفية الذين حرموا المظاهرات لا فقط دعما لحزب الله بل أيضا دعما لحماس السنية. لا يستطيع أحد أن يقول أن هذا الموقف العقدي هو الذي نراه اليوم وقد انتصر بنمو طبيعي إذ لم يكن له أن ينمو لولا الوجه السياسي القبيح الذي كشف عنه الشيعة.
– الرد على هذا الكلام والذي مفاده أن الشيعة لم يعتدوا بل تصرفوا بمقتضى التخوف من التكفيريين وردا على عدوانهم على المواقع الشيعية في أفغانستان والعراق وغيرها – هذا الرد صحيح بشأن التكفيريين، لكن السؤال المباشر: كم يمثل التكفيريون الذين يفجرون المراقد من مجموع السنة؟ ألم يكن حريا بحزب الله أن يضع يده مع السوريين الأطهار الذي احتضنوا المقاومة في 2006 من الإخوان أو من غيرهم حيث لا تكفيري هناك ولم يكن في سوريا سوى من يصفق بعد للمقاومة قبل التدخل السخيف لحزب الله؟ هل كان حزب الله سيجد غير العون على قتال التكفيريين وحزب البعث المجرم معا؟ التكفيريون ليسوا تعليلا مقنعا والسنة أنفسهم في حرب مريرة معهم والتعليل الذي يجتر خرافة التكفيريين واه تماما.
– ما السبب إذن المقنع للحرب الدائرة والمتصاعدة وللموقع السيء الذي بات يحتله الشيعة في الوعي السني (إذا لم يكن العقدي رأسا هو من أشعل الحرب وقد عشنا طويلا نصفق ونقرأ للشيعي الثوري والمفكر، وإذا لم يكن التكفيري تعليلا فعليا فنحن جميعا في حرب معه)؟ لا أرى سببا حقيقيا للحرب الدائرة – لا أراه في السنة بل في الشيعة منذ بدأ الإصطفاف العجيب على قاعدة مصلحة الطائفة في العراق وسوريا وهلم جرا.
– بدا لي ونحن نحاول فهم ما جرى (وقد صدمنا فعلا لمن رفعوا شعارات المستضعفين وهمومهم يضعون أنفسهم تحت الحذاء النجس للأمريكان في العراق وتحت طائلة الحذاء الشريف لمنتظر الزيدي ثم يقتلون الثورة السورية ويقتلون أطفال سوريا) – بدا لي أن القصة أعمق من مواقف سياسية خاطئة للشيعة وأنها عقدية وفكرية بالأساس وأن الحرب تقع في العقل الشيعي قبل أن تظهر على الأرض.
– عقديا يجب أن نتذكر أن العقائد الشيعية في المتون الكبرى حربية بلا هوادة ومتشنجة: فالشيعي لا يقول “برأيي أبو بكر أو عمر أو عثمان مخطئ” بل يقول هو زنديق كما في الحكومة الإسلامية للإمام الخميني وكافر ومصيره جهنم ويحل قتله كما احتفل بقاتل عمر وأقام له المزارات… هنا الروح التكفيرية الحربية هي الحاكمة لا الموقف الفكري.
– فكريا فإن إعجابنا الذي لا يزال قائما بالفكر التحرري لعلي شريعتي وبالسيد الشهيد الصدر في كتبه الفلسفية المتينة وخاصة “فلسفتنا” و”الأسس المنطقية للإستقراء” (يمكن أن أكشف عن الإبداعات المتميزة لهذا الفيلسوف خاصة في كتابه الأخير وإضافته لتاريخ الفلسفة لأي جهة معنية بالفكر والفلسفة) وغيرها، ذلك كله لا يغني عن ملاحظة عجيبة بشأن الفكر الشيعي: حينما نترك الفكر النظري جانبا فإن الفكر العملي-السياسي رأسا، والذي يكشف عن ذاته عند الإحراجات لا يختلف في شيء عن أنماط الفكر الدموي التي عرفناها. معرفة حقيقة فكر ما هاهنا تختصره أسئلة بسيطة: هل يحتمل الفكر الشيعي أولوية المبدإ على المصلحة أم المصلحة على المبدإ؟ هل يحتمل الفكر الشيعي أولوية الإنسان على الطائفة والعقيدة أم لا؟ هل يحتمل الفكر الشيعي أولوية الفكرة على تعييناتها الشخصية وأساسا الإمام أم أن الولي والطائفة والمصلحة أسبق من الفكرة والمبدإ؟ الجواب الواضح عندي: كلا، دون إطناب في ما لا يتسع له المجال.
هاهنا الطامة الكبرى للفكر الشيعي: العجز عن ترتيب أولويات الفكر لجهة الإنسان والمبدإ والفكرة الحرة من التعيين ومن الإمام ومن الطائفة… قد يفسر المختص في الحضارة والتاريخ ذلك بالجذور الفارسية الراسخة أو بأي شيء آخر، المهم أن الشيعي، في ما هو بين أيدينا، لا يرى حرجا فكريا (تماما كما زميله البعثي والفاشي..) أن يقتل إنسانا ويلقي بحقوقه في البحر لأجل العقيدة والطائفة والمصلحة والولي، المفاهيم المركزية والموجهة للوعي الشيعي.
لم نتجنى على الشيعة بل هم من ظلموا أنفسهم..