بداية نؤكد على حق السيد ناجي جلول بما هو سياسي وقيادي في نداء تونس أن تكون له طموحاتُه السياسية وأن تكون عينُه على رئاسة الحكومة أو حتى على رئاسة الجمهورية مستقبلا، كما من حقه أن يمارس الدعاية لنفسه وهو وزير تربية بما يوفر له حزاما شعبيا ورأيا عاما يستفيد منه في المحطات القادمة لتحقيق طموحاته تلك.
بعيدا عن هذه الحسابات التي نتفهمها ولا تعنينا حقيقة، أجدني معنيا كغيري من تونسيين كثيرين بالإصلاح التربوي في مجمله وأساسا بما يتعلق بمادة التفكير الإسلامي التي تكلم فيها أخيرا السيد الوزير قائلا:” إن مادة التربية الاسلامية ستبقى ضمن المواد المدروسة لكن يجب أن تكون لنا الجرأة في أن نعطي التلميذ تكوينا تقدميا”.
ومع تأكيدنا على أن تكون صفة “التقدمية” تلك ليست مُسْتلة من منظومة إيديولوجية فتكون وقتها “التقدمية” سيفا مسلولا بوجه هوية الشعب وخلفيته الحضارية ومرجعيته الثقافية ومعتقده الديني وهو ما يتخوف منه أغلب التونسيين بعد تجربتهم المؤلمة مع المرحوم محمد الشرفي حين بدأ مشروعه الإصلاحي في وزارة التربية بتجفيف الينابيع داخل المواد الاجتماعية والإنسانية وأساسا برامج التفكير الإسلامي.
السيد الوزير أكد أن الإصلاح السابق تم بخلفية إيديولوجية وأكد أنه لن يُعيد هذا المنهج الخاطئ واعدا بتشريك أكثر ما يمكن من أهل الخبرة والاختصاص قائلا: “هناك تخوف لدى الإسلاميين واليساريين من مشروع الإصلاح وكل يريد أن يصبغه بصبغته، غير أن المجتمع التونسي اختار التعددية، والمدرسة اليوم يجب أن تعكس هذه التعددية وإلا فإن برامجنا الإصلاحية ستفشل كما فشلت من قبل عندما اعتمدت إصلاحا تربويا إيديولوجيا وسينتهي مع ذهاب أصحابه”.
ولا يمكن لكل العقلاء إلا دعم السيد الوزير في هذا المنهج التشريكي الحواري في مسألة هي من أخطر المسائل المتعلقة بمستقبل الناشئة ومستقبل الوطن.
نحن ندعم بالتأكيد أن تكون مضامين مادة التفكير الإسلامي مضامين تقدمية بالمفهوم الحضاري الإبداعي للتقدمية أي بمعنى التجدد داخل الزمن وبمعنى الذهاب الدائم إلى مستقبل أرقى وأنقى وبمعنى الانفتاح على تجارب الأمم والشعوب والاستفادة من كل إبداعات العقل البشري وبمعنى الانتصار لقيم العدالة والمساواة والحرية وبمعنى خوض معركة ضد الجهل والفقر والاستبداد والاستغلال والفساد والفوضى.
خدمة هذه المعاني التقدمية تجد في مدونتنا الإسلامية الكثير من النصوص التي يمكن الاشتغال عليها في مادة التفكير الإسلامي بما يُكسب ناشئتنا ثقة في ذاتهم بما هم عرب مسلمون وبما يُحصّن شبابنا من الفكر المتجمد المتعصب التقليدي، وبما يُنمي ملكات النقد والتفكير والسؤال والشك المعرفي عند بناتنا وأبنائنا التلاميذ.
مُتاحٌ للسيد ناجي جلول اليوم أن ينتصر لمستقبل تونس ولمستقبله هو معا في عملية الإصلاح التربوي وهو يعي جيدا بأن السياسي الماهر هو الذي يترك أثره الإيجابي في المعاني والأفكار والقيم وفي إنجازاته المتعلقة بمستقبل الأجيال، يعي ناجي جلول بان المدرسة بما هي برامج ومناهج هي المختبر الكبير لـ”تصنيع” الأجيال ولتشكيل الوعي وبناء الذوات بما هي جهاز نفسي وألياف عصبية ومعتقدات وأفكار.
يقول جلول :”أنا اليوم أريد إصلاحا يبقى بعدي ولا يمكن أن يبقى بعدي إلا إذا كان محل توافق ولذلك اخترنا الطريق الأصعب من خلال الحوار الوطني والتشاركية مع كل الهيئات والمنظمات والفاعلين في القطاع”.
هذا الإصلاح الذي تريده أن يبقى بعدك هو الإصلاح الذي ينقل أبنائنا إلى المستقبل الجميل حيث الإنسان الحي المبدع السوي لا هو من المقلدين ولا من الممسوخين ولا هو من المتعصبين ولا من الرخوانيين، إنه مستقبل الإبداع والأفكار والمعاني والقيم.
مادة التفكير الإسلامي هي إحدى أهم المواد التي يُعوّل عليها في تحقيق تلك الإنتظارات بسبب ارتباطها بجذور الإنتماء وبسبب تعلقها بالمستقبل أساسا وبسبب تأثيرها المباشر في سلوك الناشئة وفي نظرتها للحياة وللإنسان وللزمن والمجتمع والأسرة والعالم،مادة التفكير الإسلامي تحتاج حيّزا زمنيا أوسع للتدريس بمعدل ساعتين أسبوعيا على الأقل في كل المستويات مع الترفيع في ضاربها إلى (2) بدل (1)، ثم هل لكم سيادة الوزير أن تجدوا تفسيرا لحرمان تلاميذ الثالثة ثانوي تقنية والثالثة اقتصاد والثالثة إعلامية من مادة التفكير الاسلامي مع أن جميع المواد يتمتع بها التلاميذ في كل الشعب وإلى حد الباكالوريا بما فيها المواد الفنية واللغات والرياضة؟
نعلم أنكم ستجدون صعوبة كبيرة في معالجة وضعية مادة التفكير الاسلامي التي وقع تهميشها عقودا لا بسبب ضعف محصولها المعرفي ولا بسبب ضعف تكوين مدرسيها ومتفقديها ـ فهي مادة المقاصد وليست مادة الوسائل كغيرها ـ وإنما بسبب الرغبة في إهانتها وإهانة الإسلام من خلالها ولسنا غافلين عن الدوافع والأهداف ونتذكر كيف جعلها محمد الصياح بداية الثمانينات ضارب نصف بالتمام والكمال.
سيادة الوزير تقول تريد أن تبقى الإصلاحات بعدك وما سيتبعها من بقاء ذكرك الحسن في التاريخ والمستقبل ونحن نهنئكم على هذا الحلم الذي لا يحلمه إلا مؤمن بالمستقبل ولكننا نذكرك فقط بأن المستقبل تنقدح أقباسُه من روح شعبنا ومن تاريخه ومن الأرض التي يقف عليها فلا تتورطوا كمن سبقكم في صبّ سوائل الأحقاد الإيديولوجية على قادحات الضوء وبشائر المستقبل.
وفقكم الله في خدمة التربية والتعليم وفي قَدحِ “حجر الصوّان” في ظلمات “الشعانبي”… “الشعانبي” نظرية سوداء ودخان أرواح.
الإمضاء