أبو يعرب المرزوقي
من بساطة التحليل الظن بأن السنة غلبتها الشيعة أو بأن المعركة الأساسية الدائرة حاليا هي بين السنة والشيعة. فلو كانت كذلك لحسمت في رمشة عين.
ما يجعل السنة شبه مشلولة هو أنها في حرب أهلية حقيقية مضاعفة: بين الإسلاميين ثم بينهم وبين العلمانيين والليبراليين. تجاهل ذلك يبعدنا عن الحل.
ومستويا الحرب الأهلية في الجماعة السنية كلتاهما تدول هذه الحرب إذ إن السنة تتجاوز الإقليم فهي عالمية ومن ثم فحربها بفرعيها تعني العالم الذي يسندها ضدها.
والحرب بين الإسلاميين مضاعفة هي بدورها: فهي بين الإسلاميين كجماعة وهي بين الجماعة وأنظمة الحكم فيها. ولا ندري ايهما يحرك الثاني منهما.
فالإسلاميون بصنفيهم -تعميما مخلا لتعدد الأصناف لأدنى بسبب قسمة هذين الصنفين- أي السلفية والأخوانية في حرب أهلية حول العلاقة بين الديني والسياسي وخاصة السياسي الحديث: الديموقراطية.
والإسلاميون بصنفيهم في حرب مع الأنظمة أو على الأقل بعض أحد صفي الإسلاميين (الجهاديون) والأنظمة في حرب مع الصف الثاني منهم لاستبدادها وفسادها وخوفها من بديل إسلامي افضل من الإسلام الذي يطبقونه أو من الأنظمة التي تدعي العلمانية.
فيكون كل إسلامي يريد المشاركة في حياة سياسية حديثة هدفا لصف الإسلاميين التقليديين وللأنظمة ولنخبهم التقليدية او حتى من العلمانيين والليبراليين: وهذه هي أزمة الثورة.
والغرب خوفا من حكم الشعب لنفسه بعد فشله في فرض ديموقراطية صورية اعتبر الحقيقة خطرا فانحاز للأنظمة ومعه العلمانيون والليبراليون: وذلك هو مأزق الثورة.
ولذلك فالشعب صار ضحية للأنظمة وللإسلاميين التقليديين وللعلمانيين والليبراليين وكل من يخالف أحدا من هؤلاء يسمى اخوني وإسلاموي بل وإرهابي.
وهذه التهمة تلصق بالإسلاميين الذين يريدون الحرية والكرامية هدفها بَيّن: التبرير الذي يحتاج إليه الغرب والأنظمة والنخب العميلة لإجهاض الثورة.
فتستفيد منه إيران ومعنى ذلك أن الانظمة والنخب العميلة حلفاء موضوعيين وأحيانا ذاتيين للمشروع الإيراني ومعهم حلفاؤهم من الغرب: إفشال الثورة.
وبعبارة وجيزة ودون إطالة: السنة في مأزق ذاتي بصرف النظر عن مشروع إيران وإسرائيل. فهي في حرب أهلية حقيقية وتلك هي خطوطها العريضة سبب الشلل.
وإذن فالصمود رغم ذلك كله دليل على أن النصر في المتناول وأن الأعداء سيهزمون لأن الشعب بدأ يصل إلى قناعة بأنه يحل الثورة بمكر الله الخير.
فما يجري في مصر من توجه سريع نحو ثورة اجتماعية آمل ألا تصبح ثورة جياع وما يسببه تدني أسعار البترول في توعية شعوب الخليج كله لصالح الثورة.
فوعي شعوب الخليج بضرورة الإسلام التحرري والديموقراطي سيضعف الإسلام التقليدي ومعه التضييق على حركات التحديث الأصيلة أي الثورة الديموقراطية.
فشعب مصر سيكتشف أن الحرب ليست عليه وحده وعلى شروط كرامته وعيشه بل على معتقداته الروحية أي أغلى شيء عنده فيتحد الوجهان الروحي والاجتماعي.
وشعوب الخليج بدأت تدرك الخداع فالحكومات لن تستطيع إرشائها بالمكرمات فيفهمون وضع أخوتهم مع العرب وستطالبون بحقوقهم فتذبل الثورة المضادة.
وعندئذ سينفرط الحلف بين الأنظمة والنخب العميلة وما يتفرع عنها من حيل للاحتجاج بالإرهاب ضد الثورة فلا تصمد حينها إيران لحظة واحدة ضدنا. بل إن ثورتنا ستصبح موحية بضرورة التحرر لشعوب إيران ضد استبداد الملالي الروحي واستبداد مافية الحرس المادية فيتحرروا بتحررنا كما حدث أول مرة.
مرة أخرى -وذلك هو معنى الاستئناف- سنكون نحن أهل الثورة الثانية في تاريخ الأمة: الأولى هي اسلام الصدر والثانية هي استئنافه وتلك هي الغاية.
فما يجري في مصر وما يجري في الخليج كلاهما من مكر الله الخير: غباء السيسي وعسكره وأزمة البترول وتخلي الحامي سيحرر الأمة فتعتمد على نفسها.
حينها لن يصمد أمام الأمة لا إيران ولا إسرائيل حتى لو كان لهم الغرب والشرق ظهيرا: فما ينقصنا حاليا هو المشروع والإيمان بالإرادة والقدرة الذاتيتين.
ما ندين به لشباب الثورة وخاصة لأبطال الشام والعراق من المقاومات التي لا تشوه الإسلام مثل داعش وماعش والجش والفحش هو انضاج الوعي الشعبي.
لذلك فإني اعتبر ما يجري حاليا من حرب أهلية عربية وسنية أشبه بما حصل للعرب قبيل نزول الرسالة هو تدريب على الجهاد وتكوين للرجال والقيادات.
وبمجرد ما يعود المحرك في الضمائر محرك الحريتين القرآنيتين الروحية والسياسية فإن التسونامي الثورة لن يكون فوضى بل انتظام الإبداع المستأنف.
كتبت على حلب ولم أكتب على الموصل. ولابد أن البعض يعجب. ذكرت أهمية معركتها لكني لم أدخل في مناحة لا على حلب ولا على الموصل فلماذا يا ترى؟
اكتفي بملاحظتين: إذا كانت مدينة الفن العربي (حلب) قد صمدت ودحرت كل مليشيات الملالي من شيعة الإقليم وغيرها فكيف بمدينة التقاليد العسكرية العراقية (الموصل)؟
صمود الموصل لا تمثله داعش بل شعبها وقواها الحية. اخراج داعش لصالح الثورة وتقوية صف السنة بخلاف ما يتوهم أعداؤها: وهذا من مكر الله الخير.
ذلك أن جل قيادات الجيش العراقي ونخبه ذات الاهلية والروية بخلاف من انضم إلى داعش سيكونوا السد المنيع ضد عبث المليشيات الشيعية: الـخطة “ب” التركية.
طبعا تركيا لم تطلعني على خططها. لكن كل من يفهم في الحرب يعلم أن تركيا قد أعدت نفسها لهذا اليوم وتلك هي وظيفة بعشيقة: ألم تدرب آلاف من أبناء السنة عربا وكردا وتركمانا؟
هل دربتهم للاستعراض العسكري أم لمثل هذه الحالات في صورة منع تركيا من المشاركة في تحرير الموصل؟ من سيمنع أبناءها من المشاركة في تحريرها؟ أنا مطمئن لدهاء معاوية وحكمته.
وطبعا لا اقصد معاوية العرب (ابن أبي سفيان) بل معاوية الاتراك (أردوغان) الذي أرجع تركيا لمرجعيتها الإسلامية دون مساس بما في العلمانية من مطابق لقيم القرآن.
ففي العلمانية الكثير من القيم الإسلامية وخاصة الحريتان: الروحية أو عدم الوساطة بين المؤمن وربه والسياسية الشعب يختار حكامه (الشورى 38).
والحرية الأولى يدعهما مبدأ الحرية الدينية أو عدم الإكراه فيها والحرية الثانية يدعمها مبدأ المسؤولية الخلقية التي بها يعرف القرآن المؤمن والانتساب إلى الأمة الخيرة.
وذلك هو مضمون الآيتين 104 و 110 من آل عمران: المؤمن هو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيرعى الشأن العام وتلك هي مسؤوليات المواطن بالمعنى الحديث والانتساب إلى الأمة الخيرة.
لن يحتاج الجيش التركي للمشاركة في المعركة سيكتفي بالمراقبة. وعندما تنتهي المعركة سيحصل احد أمرين إما أن امريكا تفي بوعدها فلا يتدخل الحشد.
أو لا تفي فيتدخل وعندئد ستكون نهايته عن طريق ابناء الموصل الذي دربهم الجيش التركي. وحينئذ سيضطرون لطلب أردوغان ليكون على مائدة المفاوضات.
لذلك فأنا غير خائف على الموصل بل وحتى على حلب: فروسيا وصلت إلى الحد الذي أخاف أوروبا وأمريكا على الممرات والطاقة. وهو ما لن يسمحوا به.
ولما كانوا عاجزين عن الحرب المباشرة فلن يحولوا دون تسليح المقاومة بما يحقق ما تحقق في افغانستان إذا عاند بوتين. ما أخاف منه ليس المعركة.
ما أخاف منه هو ما بعدها: آمل ألا يتكرر مشهد أمراء الحرب الأفغان. إذا حدث ذلك لا قدر الله فمرة أخرى يكون غباء القيادات علة النكبة لا العدو.
هكذا أفهم الوضعية ونادرا ما خانني حدسي. المهم أن عندي اطمئنانا عجيبا بخلاف ما كتبته سابقا حول حرب اليمن عندما نبهت للاخطاء الاستراتيجية.
معركة الموصل هي بداية نهاية طموحات إيران كلها في الهلال: فإذا تدخل الحشد أفني وإذا لم يتدخل هزم من دون حرب. الموصل تعيد لسنة العراق وزنها.
وبعودة وزن السنة في العراق ينتهي دور إيران أو على الأقل تصبح نهايته شرط بناء دولة العراق الاتحادية. اتجاه الريح بدأ يتغير فلا تقنطوا. النصر صبر ساعة.
وقادة إيران يعلمون ذلك وتلك هي علة المعركة التي فرضوها على نظام المنطقة الخضراء ضد الحضور التركي في بعشيقة. لكن هذه المرة لعبهم مع من هو أذكى منهم وأحوط فلا يرتجل إذ له خطة “ب” وحتى خطة “ج”.