يوم حملت على عاتفي “دبوزة غاز” لـ 12 كيلومترا…
بسم الله الرحمان الرحيم سنة 2007 كنت أدرس في إحدى المناطق الجبلية النائية بولاية تطاوين حيث تقع المدرسة في وادي بين جبلين وتبعد عن أقرب تجمع سكني مسافة 6 كيلومترات كاملة، وإذا أردت أن تذهب إلى تلك المنطقة -المجاورة- فما عليك إلا امتطاء R11 (رجليك) أو انتظار سيارة “الخبز” التي تزور المدرسة يوما بيوم لتوصل الخبز إلى “الكونتينية” ليتناول التلاميذ اللمجة خبزا وسردينا وهريسة، يوما “خبز جديد” ويوما” خبز بايت”.
في مساء أحد من الآحاد أردت إعداد قهوة -بالطبع بعيدا عن ضوضاء المقاهي غير الموجودة أصلا- فما راعني إلا وقارورة الغاز قد نفذ ما فيها، فتغير التفكير من “التفرهيد” بقهوة إلى التفكير في كيفية الحصول على العشاء، وسرعان ما اهتديت إلى وجود بعض المشروبات الغازية وقطع البسكويت والزيتون بنوعيه “زرازي وشملالي” أتاني به عون التنظيف منذ يومين هدية مع وجود بعض قطع الخبز الباقي منذ يوم الجمعة صباحا فكان ذلك الملاذ لوجبة عشاء تبدو مترفة جدا بالنظر إلى الوضع المحيط بها. لقد كانت هذه الوجبة فطورا وغداء وعشاء طيلة اليومين الموالين عل سيارة تزور المكان فتريحني من حمل القارورة 6 كيلومترات على ظهري ولكن هيهات هيهات فقد قدر الله أن تغيب سيارة الخبز أيضا وبدأ الجوع يأخذ مني مأخذه فاتخذت قرارا صارما ولا رجعة فيه…
عند منتصف النهار وبعد أن انهيت 4 ساعات من التدريس لقسمي 5 و6 نظام فرق، كان القرار أخذ القارورة على ظهري للمنطقة المجاورة (6 كلم) لاستبدالها. وضعت سماعات الجوال في أذني ولبست الحذاء الإحتياطي ثم حملت القارورة وتوكلت على الله وانطلقت. صعدت الجبل ونزلت الوادي فبدا لي أن وزن القارورة يزداد عند الصعود وينقص عند النزول (وهي حقيقة علمية).
بعد ثلاث كيلومترات التقيت ولي أحد تلامذتي وقد وضع مشترياته فوق ظهر حمار صغير من المستحيل أن يقدر على العودة بحمله ذلك لجلب قارورة غاز. تحدثنا قليلا لأخذ بعض الراحة ثم نظر إلي نظرة المشفق وقال: “برى ربي يعينك الله يعطيك الصحة”. حملت القارورة ثم انطلقت وأنا أرى وجبة المقرونة على بعد كيلومترات فقط. بعد ساعة وربع فقط وصلت إلى الدكان الذين اجتمع أمامه رجال القرية مثلهم في ذلك مثل كل يوم وفي نفس التوقيت على كأس شاي أخضر والقيل والقال حتى غروب الشمس. حييتهم فردوا بأحسن منها ودعوني إلى كأس شاي ساخن فأجبت دعوتهم رغبة في أخذ بعض “الوقود” وبعض الراحة قبل الإنطلاق في رحلة العودة. عشر دقائق كانت كافية للسؤال عن أحوالهم وجديدهم ثم دخلت الدكان لاستبدال قارورة الغاز. وبما أن الدكان عطار وخضار وجزار في نفس الوقت فقد تزودت منه بكيلوغرام من لحم الماعز ثمنه آنذاك 6 دنانير فقط مع ربطة من الجزر ورطلا من المقرونة. تابطت اللحم والجزر والمقرونة ووضعت قارورة الغاز الملآنة فوق كتفي ثم حييت الجماعة الذين أمطروني بوابل من دعواتهم الطيبة وانطلقت أجوب الجبال أملا في الوصول سالما لأنعم بوجبة “مقرونة جارية” باللحم.
لقد طال الطريق هذه المرة وقد كانت القارورة في الأول فارغة والآن ملآى. كنت حينا أنصت إلى الجوال وحينا -وهي الحقيقة ولكنها ليست من الهبل والحمد لله- أكلم الهواء أو الجبل أو القارورة أو اللحم والمقرونة وأدعو الله أن يفرج عني وييسر أمري ثم يسرح بي تفكيري إلى مدارس المنازه والمنار وحتى داخل المدن والقرى المختلفة، ثم يجول بخاطري تساؤل: أليس هذا نعيما من وجه آخر؟ أليس سقوط ظهري أفضل من سقوط كرامتي أرشو هذا وأرجو مزايا ذاك؟ ثم ما لبث ان يشرد بي الذهن لأتفكر في ملكوت الله من جبال وأودية أعايشها وأرى قدرة الله في خلقها. بعد ساعة و45 دقيقة بلغت مرامي ودخلت الدار الواقعة في المدرسة أصلا حيث أسرعت إلى إعداد وجبة هي الأولى منذ ثلاثة أيام حتى جف البطن إلا من البوقا والبسكويت. لقد أعددت وجبة المقرونة بنصف اللحم الذي اشتريته وكانت ألذ الوجبات في حياتي لأنها مغموسة في عرق الكرامة رغم شقائي وممزوجة بحلال لقمة العيش.