حتى أنت يا سي حسين !!

نور الدين العويديدي
حين أمر بالقرب من “خصة” باردو أشعر بحزن شديد، عندما أرى بعض العشرات من المساجين السياسيين السابقين، ماضون في اعتصام مستمر منذ أشهر طويلة.. مر عليهم الشتاء ببرده وأمطاره وأوجاعه، ولم يأتهم الربيع، فقد اختار أن لا يحل بالمكان.. ثم جاءهم صيف ساخن وهواء خانق.. وها هو الخريف قد داهمهم، والشتاء مجددا على الأبواب، وهم معتصمون في خيمة بسيطة، يطالبون برد الاعتبار، وتعويض مادي بسيط، يحميهم وعائلاتهم من غائلة الجوع والمرض.
هذه بعض حقائق الواقع الصلبة، يراها المار من منطقة باردو كل يوم، ماثلة حية صارخة.. أما في الإذاعات والتلفزيونات والجرائد، حيث يشتد الفصام بين الواقع والإعلام، إذا صدقنا كل ما يقال من غثاء وإشاعات وأكاذيب، فهؤلاء مفترض أنهم في سياحة استجمام في باردو.. فقد نهبوا هم وغيرهم من المساجين السياسيين السابقين ميزانية الدولة، وبنوا القصور، وملكوا اليخوت والفنادق.. وهم في باردو فقط للاستمتاع بمطر الشتاء وحر الصيف وهموم الخريف.
الشائع عند العوام وباديي الرأي أن المساجين السياسيين السابقين جميعا تم التعويض لهم وأنهم “غرقوا” في فلوس الدولة “للعنكوش”، وأن كل واحد منهم تلقى تعويضات بمئات آلاف الدينارات.. والشائع أيضا عند العوام وباديي الرأي من السماعين للإشاعات والأكاذيب والافتراءات، فإن النهضة أغرقت الإدارة بمئات الآلاف من المساجين السياسيين السابقين، من غير ذوي الكفاءة، ممن تسببوا في أعطال كبيرة واختلالات لا تحصى في الإدارة، مثلما تسببوا في بطالة خريجي الجامعات.. وزادوا في ثقب الأوزون، ما يجعل الكرة الأرضية مهددة بالفناء.
بعيدا عن الإشاعات والأكاذيب والأموال الخيالية الطائلة، فإن حقيقة التعويض أن بضعة عشرات من المساجين السياسيين السابقين من الفقراء المدقعين والمرضى، ممن طحنهم القمع وأورثهم عاهات وأمراض شتى، قد تلقى كل واحد منهم تعويضا في حدود 6 آلاف دينار للتداوي وضمان عيش الكفاف لسنة أو أقل. وهو مال لم تدفع فيه تونس وشعبها مليما واحدا، إذ هو متأت من هبة قطرية للحكومة التونسية، حتى تخفف قليلا عن أولئك المساكين بؤسهم ومرضهم.
حتى الوزير صدق الإشاعة
لم يقف الأمر عند العوام والدهماء والرعاع، ممن تحلو لهم النميمة، ويصدقون غفلة منهم ويروجون الإشاعات والأكاذيب على أنها حقائق.. حتى الخبير الاقتصادي ووزير المالية السابق السيد حسين الديماسي صدق الكذبة وروج الإشاعات، ورددها مطمئن البال..
فالسيد الديماسي قال أخيرا في تصريح تلفزي، لم أكن محظوظا بما يكفي حتى أطلع عليه مباشرة، لكن أصدقاء كثر أكدوا لي ولغيري أنه ادعى فيه أن النهضة وحكومة الترويكا عينت في الوظيفة العمومية 100 ألف سجين سياسي سابق، وأن ذلك هو ما تسبب في تضخم حجم الموظفين الإداريين، وهو أيضا ما أضعف الإدارة بإدخال عناصر غير كفئة لمختلف مفاصلها.
السيد الديماسي وزير سابق للمالية في فترة حكم الترويكا، وهو خبير اقتصادي لا يشق له غبار، لولا الأحقاد التي أعمته وجعلته دون العوام والدهماء تثبتا في المعطيات والأرقام. وهو من المفترضين عالم وفاهم ما يعني رقم 100 ألف موظف جديد، يدخلون على إدارة.. وهو أيضا عالم وفاهم ما يعني 100 ألف سجين سياسي سابق..
فالنهضة في أكثر الأرقام، التي تعطيها عن مساجينها السياسيين طيلة فترة حكم المخلوع، تتحدث عن 40 ألف سجين سابق فقط. ولم تبلغ بها الجرأة أن تدعي أنه سُجن من أبنائها 100 ألف.. فمن أين جاء السيد الديماسي بهذا الرقم المهول للسجناء، ثم للموظفين الذين غزوا في غفلة من الناس الإدارة؟
من سوء حظ السيد الديماسي، الخبير الاقتصادي الجهبذ، المصدق للإشاعات والمروج لها، أن وزير الوظيفة العمومية الحالي السيد عبيد البريكي، وهو يساري معادي لحركة النهضة، ولكن الأرقام والحقائق تفرض عليه الصدق، قد صرح في نفس القناة، التي تحدث إليها الديماسي، انطلاقا من معرفة دقيقة بالملفات، إذ هو وزير الموظفين، أي وزير الإدارة.. صرح أنه لم يتم بعد الثورة وحتى الآن سوى توظيف 9 آلاف في الإدارة العمومية يتكونون من المئات أو الآلاف من جرحى الثورة فضلا عن المساجين السياسيين السابقين المتمتعين بالعفو العام.. فمن أين جاء السيد الديماسي بالـ91 ألفا الآخرين؟
عيب على عامي بسيط يسمع كل يوم إشاعات فيرددها دون أن يتثبت فيها، لأن الله أعطانا عقولا نمحص بها ما نسمع وما نقرأ من معطيات.. أما مع الخبير الاقتصادي والوزير الأسبق، فالأمر يتجاوز كونه عيبا إلى كونه سقوطا مريعا لا يليق بخبير ولا بوزير أسبق.
تونس للأسف الشديد موبوءة بالإشاعات والأكاذيب، وموبوءة أكثر بمن يصدق الإشاعات ويروج الأكاذيب.. حتى قال “خبراء” مزعومون إن رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي سرق 120 مليار دولار من ميزانية الدولة..
وإذا فكرنا قليلا فقط بالعقل، الذي أعطاه لنا الله وسيحاسبنا لماذا لم نستخدمه، وعرفنا أن السيد الجبالي حكم تونس رئيسا لحكومتها عاما واحدا فقط.. وإذا علمنا أن ميزانية حكومته لم تتجاوز 15 مليار دولار ساعتها، أي نحو 25 مليار دينار، يظل السؤال المطروح، كيف أمكن للسيد الجبالي سرقة 120 مليارا من 15 مليارا؟
أهل العقول يعلمون سريعا حين يعرفون الأرقام أن الأمر يتعلق بأكاذيب بلهاء لا تعقل ولا تصدق إلا من قبل الحمقى والمجانين.. ولكن ناشر الإشاعة لا يتوجه بكلامه لأصحاب العقول.. إنه يستهدف فقط الأغبياء والبلهاء والحمقى والمجانين.. وما أكثرهم للأسف.. فحتى خبراؤنا الاقتصاديون الكبار صاروا من هؤلاء.. وقد انضم إليهم أخيرا، ويا لخيبة المسعى، دكتور في الاقتصاد بمرتبة وزير سابق.
وقد قال أجدادنا رحمهم الله تعالى: إذا المتحدث مهبول يكون السامع عاقل.

Exit mobile version