هذا الشاهد… هو من سَبُّورة الواقع، طريٌّ، لم يجفّ حِبْرُه بعدُ.
أعرضه، لا تزكية ً لأحد أبطاله، ولا تشهيرًا بالآخر… وإنما لنعلم أن التوافق الحق، والمُنتِج، هو توافق القلوب، والنوايا أولا.. وهو الأصعَب !
وقف أمامي، وهو يمسح دمعة، فشل في إخفائها… ما أفظع أن يبكي الرجال!! أعرف انه من البكّائين في تهجّده، عندما يكون وحيدا في محرابه، وهذا ليس ضعفا،وإنما عبودية، واعرف انه سهل الدمعة مع القرآن، كما اعرف أيضا،أنه سريع العَبَرات عند سماعه بمآسي المسلمين هنا وهناك. لا أبالغ إن قلت: بياض قميصه، كبياض باطنه، والله هو الأعلم بالسرائر، ولكن بحكم العشرة، عرفت، وعلمت، واكتشفتُ فيه خيرا كثيرا وصلاحا، ولا أزكّيه على الله.
هو ممّن يصنّفهم الناس ضمن “جماعة الدعوة والتبليغ” المتميّزين عادة، بصفاء السريرة، والبساطة، وخفض الجناح، مع ما يُعابَ عليهم من ضعف في فقه الحياة، ومن غربة عن الواقع، ومن زهد أو نفور من الاندماج الحضاري.
قلت: خيرا إن شاء الله ؟ ماذا حصل ؟ لقد رأيتك منذ ساعة مع جارك فلان ؟
وجارُه فلان هو ممن يصنّفهم الناس، ضمن المحسوبين على السّلَف !
والغريب العجيب، أن لا أحدَ منهما، يرضى بغير القميص الأبيض لباسًا ولا بغير القلنسوّة البيضاء. غطاءً لرأسه.. وكلاهما يسرّح لحيته، سامحًا لها بالامتداد، والتمدّد بلا حدود، محذّرا المقصّ من مجرّد التفكير في مغازلتها، أو مسّها، وكلاهما يصطفّان خلف نفس الإمام في الصلوات الخمس.
قلت.. كأنك كنت تبكي ؟ فما الذي أبكاك ؟؟
قال: يا أخي، جوابُه كان قاسيا، وردّه على تحيّتي كان فظّا، غليظا، مخالفا لأمر الله في شان ردّ التحية.
قلت: لقد زدتني حيرة.. ما الذي حصل ؟؟
قال: ذهبت إليه مَسَلّمًا، مبتسمًا في وجهه، أردتُ أن أبشّره وأُتْحِفَه بما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، ان المسلم إذا أحبّ أخاه المسلم، فليخبره بأنه يحبّه، لهذا قلت له من كل قلبي: أشهد الله أني أحبّك في الله.
فردّ عليّ مباشرةً، بغلظة وبحدّة، وهو يقول: “وأنا اشهد الله، أنّي أبغضك في الله..” ؟؟!!
حَوْقلتُ في سِرّي وقلتُ: من هنا نعلم، ومن هنا نبدأ. بمثل هذا العَصِيّ عن التّوافُق. تتعطّل حركة المرور (1000 ناقة من حُمْر النّعَم، لمن ينجح في إقناعه، بردّ التحيّة بالتي هي أحسن!).