الأصوات في المغرب والأصداء في تونس…
قراءة
1. أسفرت الانتخابات المغربية التي جرت يوم الجمعة 7 أكتوبر 2016 عن نتيجة اختار فيها الشعب المغربي تجديد ثقته لحزب العدالة والتنمية المصنَّف ضمن تيار الإسلام السياسيّ بمملكة المغرب الأقصى.. ولا شكّ في أنّ هذه النتائج تستحقّ نظرا خاصة من أهل الدراية بالسياسة ومن المعنيين بالشأن العامّ وأولئك الذين يطمعون في أن يكونوا حكّاما للشعوب العربية في القرن الحادي والعشرين بعد أن صار الناس قادرين على الحدّ الأدنى من تمييز من يصلح لحكمهم ممّن لا يصلح، بعيدا عن كلّ وصاية.. ولكن دون أن يكون هؤلاء الطامعون واعين بما ينبغي أن يصحب شهوة الحكم من شعور بثقل المسؤولية على كلّ من يريد أن يتصدّى لإدارة الشأن العام في بلدان خرّبها الاستبداد وأتى عليها الفساد…
2. نستخلص من نتائج الانتخابات أنّ الشعوب ناضجة بالقدر الذي يسمح لها باختيار من ترى فيهم أهلا لحكمها.. وهي في ذلك لا تخطئ ولا تحتاج وصاية على خياراتها من أحد.. ولها مطلق الحرية في أن تختار من تشاء وأن ترفض من تشاء.. قد تجازف باختيارها ولكنها تتوعّد من يرسب في الاختبار مدّة حكمه بأن تمنعه ثقتها في لاحق الاستحقاقات وبأن تمتنع عن التجديد له إذا تقدّم ليخطب أصواتها من جديد.. ذلك هو عقاب الشعوب الحرّة لناكثي عهودهم معها في المناخات الديمقراطية السليمة.. وعندما تسمع كثيرا من المواطنين التونسيين يقرّون بندمهم على انتخابهم لهذا الحزب أو ذاك ويعلنون أنّهم لا يعتزمون التجديد له في قادم الاستحقاقات تعلم أنّ هؤلاء المواطنين يفهمون السياسة ويفقهون معنى التداول السلمي على السلطة أكثر من بعض الساسة والمثقفين الذين يحتقرون الشعب ويهاجمونه متى لم يوافق أمزجتهم ولم يستأذنهم عند اختياره.. لأنّهم يظنون أنّهم أوصياء عليه يختارون له ما يرونه صالحا إلى أن يبلغ رشده.. غير أنّ شعبا لن يبلغ رشده، عند هؤلاء الذين يدمنون الوصاية ويسكرون بها إلى أبد الآبدين، ولو كان شعبا من الملائكة… ولولا أنّ حزب العدالة والتنمية قد نجح في الاختبار لما أعاد الشعب المغربيّ انتخابه ولما سمح له بأن يتصدّر المشهد في الانتخابات الأخيرة بحصوله على 125 مقعدا.. وهذا أمر لا يريد هؤلاء الساسة والمثقّفون أن يعترفوا به…
3. لماذا يفوز تيار الإسلام السياسي بكل انتخابات حرة نزيهة؟ ولماذا يفشل الديمقراطيون والتقدميون والوطنيون والحداثيون مجتمعين أو مفترقين في إقناع الشعوب بأطروحاتهم رغم أخطاء الأحزاب المنتسبة إلى الإسلام السياسيّ وقصورها وقلّة خبرتها واعتراض مختلف الدوائر عليها؟ يحتاج خصوم هذا التيار، ما داموا ينافسون على الحكم، أن يبحثوا في أسباب انتصاره وهزيمتهم وأن يقفوا معه على أرضية تنافس نزيهة لا تستهدف غير إرضاء جماهير الشعب.. لا أن يسلموا أمرهم إلى انفعالات لا عقلية ويهربوا إلى الأمام هروبا بلا رجعة ويتحولوا إلى ظواهر صاخبة تؤذي الشعب ولا تحقّق له نفعا.. وعليهم أن يفهموا أنّ الشعب إمّا أنّه يمتنع عن اختيارهم لأنّه يرفضهم من حيث المبدأ وإمّا أنّهم عاجزون عن إقناعه بمواقفهم وميولاتهم.. لأنّهم، عمليّا، يرفضون الاندماج فيه من فرط استعلائهم عليه.. وفي الحالتين وجب عليهم تعديل خطابهم وتحسين أدائهم ومراجعة أطروحاتهم حتى تكون موافقة لما يريد الشعب.. والشعب هو السيّدُ والوصيُّ.. أمّا الساسة فخَدَمٌ له يتنافسون في مرضاته ويتبارون في خدمته.. وبمثل هذا يمكنهم، فعلا، أن ينخرطوا في السياق الوطنيّ الذي يتحدّث عنه بعضهم.. وإن هم لم يفعلوا فليبحثوا لهم عن شعب آخر يوافق أمزجتهم ويرقى إلى مستوى تطلّعاتهم ويرضى بحكمهم…
4. كلما جرت منافسة انتهت إلى طرف منتصر وآخر مهزوم.. وقد وجب على الطرف الخاسر متى كان ذا عقل، استعدادا للجولات اللاحقة، أن ينسج على منوال الطرف الرابح وأن يزداد تواضعا للشعب سيد الامتحان من أجل ترجمة التداول السلمي على السلطة… ولمّا كان الجماعة، في بلادنا، لا يعقلون فهم يمعنون في الهروب إلى الأمام.. لأنهم يرون أنّهم على حقّ دائما.. وأنّ الشعوب هي التي لم تنضج لتفهمهم وتعرف حقّهم وتدرك سرّ عبقريتهم.. وبدل أن يقترب منهم الشعب يزداد نفورا فيركبون صلفهم ويزدادون له احتقارا.. ومع ذلك يصرّون على حكمه يوما.. فلو أنّ الحكم ٱل إليهم، ترى هل يتنازلون عنه بعد ذلك؟ لديّ شك كبير.. بل أكاد أوقن أنهم لن يفعلوا.. والشعوب تعلم ذلك .. لذلك فهي تختار لهم السقوط…
5. إنّ من تجرحه الانتخابات يطلب دواءه في الانقلابات ويحتمي بظهور الدبابات.. أمّا من تدميه الانقلابات فلا يرى له خلاصا إلّا في الانتخابات.. لأنّ الانتخابات هي لغة الشعب المفضّلة وآلته الأمثل لاختيار من يخدمه من الحكّام.. الانقلابات آلية قديمة يكون الحكم فيها للمتغلّب.. والمتغلّب لا ينجز غير الوهم ولا يبقى منه غير السراب والخراب.. أمّا الانتخابات فآلية تعمير وبناء لأنّها تردّ الاختلاف إلى الشعب.. والشعب فيصل بين المتنافسين.. والرضا باختياره هو رضا بحكمه ونزول عند إرادته وطاعة لأمره.. ولنا أن نسأل المعجَبين بزعيم الانقلاب في مصر وأولئك الذين لا يكتمون شغفهم بالحلّ الانقلابي على إرادة الشعوب ويلتقطون صورا لهم تحت صورة زعيم الدبابة الغاشمة.. أيّهما أفضل للبلاد، أن تنعم بمناخ ديمقراطيّ وتشهد انتخابات يتداول فيها الفرقاء على الحكم وتنخرط شيئا فشيئا في نادي الدول المحترمة، أم انقلاب عسكريّ كالذي جرى بمصر يستولي فيه العسكر على السلطة ويُعْمِلون قوّتهم ضد الشعب يسومونه سوء العذاب وينهبون ثروات البلاد؟ أيعجبكم حال مصر وما ٱلت إليه أوضاعها؟ هل حلّ العسكر مشاكل البلاد أم زادوها غرقا؟ أترتضون لبلادكم مصيرا كمصير مصر؟ احسبوها بالعقل: حوار مع خصومكم الإيديولوجيين وتبادل الصبر معهم ولو كان مرّا وبذل الوسع في سبيل إيجاد أرضية توافقية مشتركة بين الفُرَقَاء لإدارة السفينة أم مواصلة المكابرة والمضيّ في طريق العدم بمنطق عليّ وعلى أعدائي والانتهاء إلى إغراقها؟.. هل يتحوّل الناس إلى أعداء كلّما اختلفوا؟ وهل تطمعون في تغيير الأمزجة يوما ما باتجاه ما تبتغون؟ استفتوا عقولكم.. وصدقكم الوطني…
6. تحدّثت بعض التحاليل عن الانتخابات المغربيّة الأخيرة فذكرت “الإفلاس الشامل الذي طال منظومة اليسار وقوى اليسار، التي كانت إلى حين نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي، القوة السياسية الأبرز في المغرب”.. والأمر ذاته يمكن أن يقال في شأن اليسار التونسيّ الذي تخلّى عن النضال وتحفّز للقتال.. وبدل أن يصرف جهوده إلى الدفاع عن الفقراء ويستهدف نصرة الكادحين تركهم ليخوض ترفا إيديولوجيا لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض.. وبدل أن يبذل وسعه في تغيير الواقع انشغل بترف تفسيره وتوصيف الأطراف السياسية الموجودة وتوزيع أحكامه عليها.. فارتكس إلى سلفيته ولزم مرجعياته المعتادة وحشر نفسه في معجمه التقليدي كأنّ التاريخ وقف عند ستالين وماو تسي تونغ وأنور خوجة.. ولما كان اليسار يرى الصراع قوام التاريخ، كما يفهمه، فقد اتّخذ من حركة النهضة عدوَّه الرئيس وعدّها رأس البلوى وحمّلها، دون غيرها، المسؤوليّة عن مشاكل البلاد جميعها وأجّج الأمزجة ضدّها واستعمل كل أدواته لضربها ولم يدّخر جهدا في استئصالها حتى لو استدعى الأمر تحالفا بينه وبين الشيطان.. وصُنع الشيطان فعلا على عين اليسار.. صُنع من خِرَقِ النظام القديم الذي قامت الثورة ضدّه.. ولمّا كان اليسار التونسيّ أسير عماه الإيديولوجيّ فقد راح يحصد في جراب غيره.. ولم يجن من حصاده شيئا يُذكَرُ وحكم على نفسه بأن يكون خارج مدار الفعل وحرم البلاد من إمكان إضافته…
7. للمولعين بالمقارنات بين التجارب الانتخابية في البلدان العربية نقول: رغم أنّ الدراسات المقارنة المعنية بدول الربيع العربيّ لم تظهر بعد على الساحة الفكرية.. فإنّ من المعلوم أنّ حركة النهضة في لحظة من زمن حكم الترويكا تُركت وحدها في العراء بين مطرقة الأحزاب المعادية والمنظمات الاجتماعية المحتجة من جهة وسندان السلطة العميقة التي يمتدّ عمرها إلى ما قبل زمن الاستقلال من جهة ثانية.. ومن منجزات عقلها السياسيّ أنّها اضطرّت خصمها القادم من رميم السلطة القديمة إلى سياسة التوافق التي أثمرت استمرار الثورة والربيع.. وبدل أن تُستَدرج البلاد إلى المجهول أُنقذت سفينة الوطن وشقّت طريقها المتعرّج إلى شاطئ الأمان الوطنيّ بعيدا عن الممكنات السيئة التي نشهدها من حولنا.. لقد صنعت حركة النهضة الحدث السياسيّ الوطنيّ ولم تدّخر جهدا في إخراج البلاد من نفق كانت تُستدرج إليه كغيرها من بلاد الربيع العربيّ…