التدرب الديمقراطي وكُتل الأحقاد
تجربة “التوافق” التي يفتخر بها التونسيون ويشهد لهم العالم بفرادتها إذ أنقذت البلاد من الغرق في الفوضى وأبعدت التونسيين عن منطقة الإحتراب، لا يكفي أن تظل شعارا سياسيا يردده بعض السياسيين وإنما يجب أن تتحول إلى ثقافة وإلى سلوك، يُنتظر من النخبة الفكرية والسياسية والإعلامية أن تمارس دورها في تنمية الوعي “التوافقي” بين التونسيين حتى يقبلوا ببعضهم مختلفين ومتنوعين ولكن يشتركون في وحدة المصير ووحدة المركبة التي تحملهم ووحدة المخاطر والتهديدات.
بعد ستة أعوام من التدرب على الديمقراطية وممارسة الحرية مازلنا للأسف لا نحسن التعبير عن مواقفنا ولا نحسن إدارة خلافاتنا، مازال التونسيون يثأرون لأنفسهم من بعضهم وليس من تاريخ الإستبداد ومن التخلف والفقر والجهل.
في كل مرة نتفاجأ بارتفاع منسوب الحقد في جهة ما ضد جهة أو جهات أخرى فيزداد خوفنا على المستقبل القريب والبعيد ونقتنع بكون شاطئ السلامة مازال بعيدا.
من طالع بيان حزب الوطد منذ أسبوع بمناسبة مصافحة عادية بين الأستاذ راشد الغنوشي وأحد مناضلي ذاك الحزب الأستاذ محمد جمور وما جاء فيه من إفراغ لتلك المصافحة من أي روح إنسانية والتأكيد على كونها «محض صدفة أثناء مراسم أحياء العيد الوطني للجمهورية الألمانية، وهو سلوك أملته رفعة أخلاق الرفيق محمد جمور في التعامل مع هكذا وضعيات عفوية»، مؤكدا أن «النشر السريع وغير البريء لهذه الصورة يعكس منهج هذه الحركة القائم على التوظيف الرخيص لمختلف جوانب الحياة الإنسانية في جانبها الاجتماعي و الديني خدمة لإغراض سياسوية ضيقة…
إن الهدف منها (الصورة) إيهام الرأي العام الوطني والدولي بمصالحة كاذبة تسعى حركة النهضة إلى الحصول عليها دون المرور بالمحاسبة القانونية والسياسية على ما أرتكبته من جرائم في حق الوطن والشعب… هذه الصورة لا تعكس بأي شكل من الأشكال تغير موقف حزبنا في تحميل المسؤولية السياسية والأخلاقية لحركة النهضة في اغتيال الشهيد شكري بلعيد وفي موقفنا من قيادتها لحكومة الترويكا ومن وجودها الحالي في حكومة الإئتللاف”، من طالع البيان يُصابُ بـ”الرعب” مما يتهدد تونس من أحقاد وكراهية ونوازع ثأرية خارج مسار العدالة وخارج القيم المدنية.
من شاهد الحلقة الأخيرة من برنامج “لمن يجرؤ فقط” التي كان ضيفها الرئيسي الشيخ عبد الفتاح مورو تفاجأ أيضا بارتفاع منسوب الحقد لدى أحد الضيوف وهو صالح الزغيدي الذي لم يكن يمثل موقفا مختلفا بقدر ما كان يمثل كُتلة من الحقد والكراهية وقد بدا ذلك في وجهه المتجهم كما لو أنه يجلس قبالة عدو بل إنه فعلا يعتبره عدوا لدودا لا يقدر حتى على اعتباره شيخا ولا على النظر في وجهه.
وحين ننظر في الجهة الأخرى نلحظ أيضا ارتفاع منسوب الغضب والكراهية لدى عدد غير قليل من الإسلاميين يبالغون في ردود الفعل ويُنكلون بخصومهم سخرية وتذكيرا بتاريخهم غير المشرف حين تحالفوا مع الاستبداد ضد خصومهم وحين نظّروا لتجفيف الينابيع.
وقبل ذلك وقع هجوم عنيف على زيارة وفد من النهضة للشاعر أولاد أحمد رحمه الله وهو على فراش مرض الموت فتهجم على الزائرين وعلى الشاعر معا عدد كبير من أنصار النهضة معتبرين الزيارة تذللا وتقديرا لمن لا يستحق كما سارع الشق الآخر إلى إفراغ الزيارة من محتواها الإنساني وإدانة الزائرين واتهامهم بالتوظيف السياسي.
من حق أي كان بل ومن واجبه التعبير عن مواقفه وآرائه ومعتقداته وليس لأحد سلطة على عقل أو ضمير أحد وليس لأحد حق ادعاء امتلاك الحقيقة وليس لأحد حق الانتصاب قاضيا معرفيا أو أخلاقيا وسلوكيا أو سياسيا فالوطن للجميع والأفكار والمعتقدات شتى، ولكن للحرية روحها الإنسانية وللديمقراطية ضوابطها الأخلاقية فلا يمكن تبرير الأحقاد والكراهية بالحرية والديمقراطية وهي نوازع لا يمكن معالجتها ببيانات الأحزاب وإنما تعالج بمغالبة الغرائز ومراجعة الوعي واستنهاض القيم الإنسانية فينا.
بعض الشباب احتجوا على الشيخ مورو وعابوا عليه حضوره في مجالس لا تليق بمقامه وهؤلاء نتفهم غيرتهم على زعمائهم ومناضليهم ولكن عليهم أن يعوا بأن الاسلاميين لا يمارسون السياسة كمدخل للحكم وإنما كوسيلة لتحقيق مشروع إحيائي يتجه إلى المستقبل ويشتغل على الأفكار والمعاني والقيم وهو ما يحتاج منا صبرا وتحملا لكثير من الأذى لا خوفا وترددا وإنما إيمانا بأن السياسة التي هي رسالة تتطلب مناضلين رساليين يخاطبون في الناس ضمائرهم ويستنهضون فيهم “الإنسان” النائم لا ييأسون من أحد ولا يقولون “هلك الناس” وفي الحديث “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” وفي حديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ”.
مشكلتنا أننا تربّينا في “الحلقات” في حوارات هادئة باردة أو على الخُطب الدينية نمارس “الإصغاء” في الغالب ولا نسأل إلا على استحياءً… نحن قد نخسر معركة التواصل رغم ما نتوفر عليه من الأفكار المنتصرة بذاتها إذا لم نكن بمستوى تلك الأفكار والقيم والمعاني.
إن كان الإسلاميون يعتقدون أنهم أصحابُ رسالة حضارية ومشروع إحيائي فليخالطوا الناس يستمعون إليهم يحاورونهم ويتحملون منهم كثيرا من الأذى ويصطبرون عليهم علهم يكشفون لهم عن حقيقتهم بعد ما تعرضوا إليه من التشويه وحملات الشيطنة، وإن كانوا يعتقدون أنهم أصحابُ “معركة” سياسوية يريدون الانتصار فيها ضد خصوم قد حدّدوهم سلفا فعليهم أن يتدربوا في ثكنات مغلقة على فنون “المواجهة” من خلف السواتر الفايسبوكية أو المقرات الحزبية أو قاعات الاجتماعات المغلقة..