1. أدلى الدكتور سالم الأبيض النائب بمجلس نوّاب الشعب عن التيار القومي العربي بحديث إعلاميّ ذكّر فيه بمقاربة له يستصحبها منذ صباه الباكر، خلاصتها أنّ الحاكم الوطنيّ المستبدّ أفضل لديه من الحاكم الديمقراطيّ العميل.. وأيّا تكن مناسبة هذا القول وظروف التذكير به فإنّه يصعب عليّ أن أفهم كيف لجامعيّ درس العلوم الإنسانية ودرّسها واطّلع على قوانين التاريخ وأحوال العمران.. كيف له أن يستمرّ على تبنّي هذا الموقف الذي يظهر بمقتضاه حبيسًا لرؤية مثنويّة لا تكاد ترى العالم إلّا من خلال ثنائيات مغلقة على شرور لا فرق بينها إلّا في مستوى الدرجة.. ففي السياسة مثلا ليس لك من خيار يخرج عن أمرين اثنين: إمّا أن يحكمك مستبدّ اغتصب السلطة على ظهر دبّابة “وطنيّة” جدّا.. وإمّا أن يحكمك عميل جيء به على ظهر دبّابة محتلّ أجنبيّ.. وليس لك أن تذهب بعيدا فتفكّر خارج ذينك المشهدين.. فلا ثالث لهما يمكن أن يسعفك…
2. إنّ ما يجعل من هذه المقاربة معطوبة أنّها تصدر عن خيال سياسيّ مريض لا يرى الأمور إلا من خلال ثنائيات لا يكاد يخرج عليها.. وحتى لا تُضطرّ، متى كنتَ من سكّان هذا المربّع الإيديولوجيّ، إلى إدانة الاستبداد فإنّك تهرب إلى مقارنته بالاستعمار.. فيظهر لك فضل الاستبداد بل ضرورته.. وبدل أن يدان الحاكم الدكتاتور بظلمه لمعارضيه وبقمعه للحريات في بلده ووأده للإنسان وكرامته وعبثه بمنزلته، تُصطنع له بطولة أسطورية يصير بمقتضاها سدّا منيعا أمام الاستعمار المحدق وعملائه المتربّصين.. كما لو كان مقدَّرا على هذه الأمّة، إذا لم يُخضعها محتلّ غاشم، أن يحكمها مستبدّ ظالم.. ويصير الاستبداد بهذا الاعتبار فضيلة الفضائل.. ويصبح الحاكم المستبدّ زعيما متفرّدا جادت به الأقدار الباسمة فكان لوحده البقعة المضيئة في تاريخ الأمّة المظلم.. أو ليس العاجز من لا يستبدّ؟
3. لو أحسنّا الظنّ بهذه المقاربة وبحثنا عن جذور لها لقلنا إنّها مقاربة لا تفهم معنى الديمقراطية.. ولا يعني الاستبداد لديها سوى “الحزم وعدم التردّد في اتّخاذ القرار وتنفيذه”.. وهي سليلة ثقافة سياسية مردّها إلى تفكير قديم يجد جذوره في مقولة “المستبدّ العادل”.. وهي مقولة تُنسَب إلى جمال الدين الأفغاني، وقد رأى فيها حلّا لمشكلات الشرق في عهده ” لن تحيا مصر، ولا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهما رجلا قويا عادلا يحكمه بأهله على غير تفرد بالقوة والسلطان”.. على أنّ الاستبداد في بلاد العرب، في ظلّ الدولة الوطنية، لم يعن شيئا سوى “انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو السلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر في رأي المحكومين”.. وأغلب هؤلاء الحكّام استولوا على الحكم بآلية الانقلاب العسكريّ.. وبعد أن احتكروا السلاح سيطروا على مختلف المرافق في أوطانهم.. وسرقوا كلّ شيء.. سرقوا اللغة واستولوا على المعاجم يختارون لهم من الأوصاف منها ما يشاؤون ويصيبون مخالفيهم بما لا يشاؤون.. فالحاكم المستبدّ هو وحده الوطنيّ.. والقوميّ.. والمقاوم.. والممانع… لقد احتكر كل صفات الجمال وخصال الجلال وعناوين الكمال.. أرأيتم زعيم انقلاب عسكريّ واحد لم يسمّ عمله الانقلابيّ ثورة ولم يجعل نفسه عليها قائدا ولم يتّخذ من مقرَّبيه مجلسا لقيادتها قبل أن يصفّيَهم واحدا واحدا؟ هل رأيتم أحدا من هؤلاء اكتفى من العبقرية بجانبها العسكريّ ولم يتحوّل إلى مبدع ومؤلّف وفيلسوف ومفكّر وسياسيّ منقطع النظير؟
4. هل يكون الحاكم المستبدّ وطنيا؟ وبأي معنى هو وطنيّ؟ وما هو مقياس الوطنية في هذه الحالة؟ وهل حاكم يسلب شعبه حريته ويمعن في سحقه يستحقّ أن يسمّى حاكما وطنيّا؟ هل حاكم يظلم أبناء وطنه هو حاكم وطنيّ؟ ثم ماذا يعني أن يأمر الحاكم ببناء جسر من حَجَرٍ يقيّده في دفاتر التاريخ الزائف ضمن إنجازات خارقة ينسبها إلى نفسه وفي دواميس وزراة داخليته يُقهَر الرجال وتُغتصب النساء ويُسبى الأطفال؟ ما الفرق بين قتل يفعله مستعمر غاشم وموت يعدّه حاكم ظالم وطنيّ جدا على طبق كوّنه من تهم مطبوخة على مهل السلطة وفي ظلمة السراديب؟
5. لقد حاكم الإيطاليون عمر المختار قبل أن يعدموه.. أقول حاكموه.. وكانت محاكمته صورية.. نعم.. ولكنّهم لم يعدموه إلّا بعد المحاكمة.. فكان فعلهم الشنيع جريمة ضدّ الشعب الليبي قاطبة.. ونحن إلى اليوم نلعن قتلة عمر المختار ونكره الاحتلال وندين جرائمه.. ولكنّ العقيد معمّر القذّافي أعدم 1269 ليبيّا من سجناء الرأي داخل سجن أبو سليم سنة 1996 دفعة واحدة وفي لمح البصر بدون محاكمة.. فهل كان يمكن للطليان أن يفعلوا بالليبيين ما فعله الزعيم الليبي بهم؟ وهل يوجد فرق بين القتْلين أو بين القاتلين؟
6. لا يفهمنّ البعض أنني أفضّل الاستعمار على الحاكم “الوطني”.. فهذا قصور في الفهم من جهة.. ومن جهة ثانية تزييف للغة والتاريخ.. أقول إن أنظمة سياسية رفعت عناوين المقاومة وشعارات الممانعة قد فعلت بشعوبها ما لم يفعله المحتلّون بها.. لقد أنجز بعض حكّام العرب جرائم إبادة لم تجرؤ قوى الاستعمار عليها.. ولسنا مطالبين إذن بأنّ نقف مع السرطان لنقول إنّنا نكره الطاعون.. فكلاهما شرّ محض.. ثمّ إنّ الحاكم لا يجد الطريق إلى قمع شعبه إلّا متى اطمأنّ إلى موافقة الدوائر الاستعمارية المهيمنة إذا لم نقل إذنها.. إنّ حاكما يقمع شعبه لهو حاكم عميل بامتياز مهما زُيّفت الحقائق ومهما سُرقت الأسماء…
7. إنّ الحكّام “الوطنيين” الذين تربّعوا على عروش بلدانهم عشرات السنين وأعادوا التاريخ من اللحظة الجمهورية الحديثة إلى لحظة ملكية وراثية ظننّا أننا قد تجاوزناها إلى غير رجعة.. إنّه لا شغل لهؤلاء غير تثبيت كراسيّهم وتوريث بلدانهم لأبنائهم من بعدهم.. وخياطة دساتير على مقاسهم والعبث بالتاريخ والجغرافيا لأجل عيون مقرّبيهم.. ومع هذه الممارسات فلا معنى للوطنية ولا للقومية ولا للمانعة.. ولن تجد أمّة يُسحَق فيها الإنسان طريقها إلى مجدها مهما تعالت صيحات الاستعارات وهما كانت الزينة والأضواء…
8. لقد وضعتنا الدولة المسمّاة وطنية في مضيق خانق وحدّت من خيالنا السياسي حتى صرنا أشبه بمرايا لا تعكس غير الشرور.. فنحن بين شرّين لا مناص لنا من الانحياز لأحدهما: إما الاستبداد وإمّا العمالة.. فهل قُدّر على أمتنا ألّا تكون إلّا فريسة لعميل يبيعها أو ضحية لمستبدّ يعدمها؟ ألا تستحقّ شعوبنا المسكينة حكما ديمقراطيا يحترم إرادتها وينزل عند اختيارها؟ فهل توجد عمالة أكبر من هدر الثروة البشرية بقهر الإنسان والعبث بكرامته؟ أليس العبث بالإنسان في بلادنا أكبر خدمة يقدّمها الحكّام للمحتلّين الأجانب؟. أليس أنّ الخراب متى أصاب الإنسان أفقد الأمة مناعتها ومن ثمّ سهّل على أعدائها التسرب إليها وبيعها في المزاد الاستعماريّ؟
9. لقد كنّا نقبل ذلك المنطق قبل الثورات العربية، ربّما.. في لحظة كان يُسمح فيها لتلك الثنائية بأن تحكم مشهد الأنظمة العربية الحاكمة.. فيتوزّع أمرها بينها.. فهذا حاكم واقعيّ عند نفسه عميل عند خصمه وذاك حاكم ممانع عند نفسه متهوّر عند خصمة.. وقد ضاعت الأمّة عند أقدام الفصيلين يجتمعان في مؤتمرات جامعتها ليصدّروا لها غثاءهم… وقتها كنّا نرضى بمقولة “للدول ضروراتها”.. أما اليوم، وقد عادت للشعوب خياراتها، فلا حجّة لأحد.. وليس لأيّ كان أن يردَّنا إلى الأنفاق القديمة التي أضاعت على الأمّة تاريخها تحت أسماء لا تعني شيئا.. لقد ظللنا نرفع شعارات فارغة ونشيد بعناوين جوفاء والأمّة تهوي في القاع ولا من يشدّها من سقوطها.. ضاعت الأرض باسم الأرض ودُمّرت الحرية باسم الحرية وهُدرت الكرامة في صخب التغنّي بالكرامة.. فلا حرية رأت النور ولا عدالة أشرق وجهها.. والحاكمان العميل والوطنيّ يتعانقان في أغلب الأحيان وإن تغاضبا في بعضها…