أبو يعرب المرزوقي
تميهد :
لماذا اخترت الآيتين 105 و 106 من الإسراء واعتبرتهما مضمون ما أطلقت عليه اسم القراءة الفلسفية للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؟ فلأشرح.
فالآية 105 تحدد طبيعة القرآن ومنهجه وتحدد وظيفة الرسول ودوره. والآية 106 تشرح الدور في ضوء شروط تحققه التربوية والتاريخية: علاقة نظرية بتطبيق.
وهما تعينان صاحب النظرية ومحدد شروط تطبيقها (الله) والمكلف بالمهمة التعليم والتطبيق النموذجي (الرسول) والمخاطب بها (الناس) والصلة بالتاريخ.
لذلك فقد توفرت لي-دون أن أنطلق من الإيمان لأن القصد هو بيان ما يمكن لفيلسوف حتى لو كان ملحدا -لأعامل القرآن بالفرض العلمي كظاهرة في الوجود.
وطبعا فلهذه الظاهرة خصوصية تشترك فيها مع كل الظاهرات الرمزية التي لها مبدع ينطق باسمها فيعرفها بالعودة عليها وكأنها ناطقة بذاتها في وصف ذاتها.
تعليل الفرض العلمي المقترح.
فما الفرض العلمي الذي وضعته لكي أتعامل مع القرآن وعلاقته بالسنة وكأنه ظاهرة لا فرق بين علاجها ضمن الظاهرات الرمزية وعلاج ظاهرات العالم الطبيعي الذي نعلمه بالفرض والاستنتاج؟
فرضيتي هي اعتبار القرآن استراتيجية توحيدية للبشرية والسنة تعليم لهذه الاستراتيجية بالأقوال والأفعال ومن ثم فهي عينة تطبيقية منه في التاريخ الفعلي.
ما قلته لأبرر هذا المنطلق تسلمته بداية. وعلي الآن أولا أن أثبته حتى يحق لي الانطلاق إلى بيان ما تؤدي إليه فرضية العلاج وما يمكن أن يستنتج منها علميا.
وحتى يدرك القاريء معنى المنطلق في هذه الحالة فينبغي أن يتذكر أن كل منظومة نظرية لتكون معرفة قابلة للوصف بالعلمية لا بد لها من خمسة شروط.
لا بد أن تؤسس علاجها أولا وأن تحدد مجال نشاط تجعله موضوع بحثها ثانيا وأن تحدد منهج بحثها ثالثا ووأدوات بحثها رابعا لتنتهي خامسا غلى حصيلة بحثها بـمعيار دلالته العلمية: تفسير الموضوع.
إذا بينت أن الآيتين المنتخبتين تؤديان هذه الوظيفة بخصوص القرآن والسنة أكون قد بينت أني لم أتسلم منطلقي مجرد تسلم بل بنيته على تحقق هذه الشروط الخمسة.
هل يمكن التعامل مع القرآن بالفرض العلمي ؟
قدي يولي بعض المشككين ضاحكين: الكلام على علاج علمي لإشكالية دينية أساسها بالقصد الأول استثناء شرط العلم لأنها كلام في الغيبيات. هل في ذلك تناقض؟
وكان فعلا يمكن أن يوجد فيه تناقض لو كان ما تقتضيه فرضيتنا يتجاوز ما يقوله النص عن نفسه ومن ثم ما لم يعتبره منتسبا إلى الغيبيات فلم ينهى عنه كما نهى عنها.
لكن الاعتراض يبقى وجيها. فبناء عليه أنا نفسي أرفض علم الكلام. لا يمكن أن نتكلم علميا في الغيب. وإذن فينبغي بيان أن كلامنا على تعريف القرآن لذاته ودوره لا علاقة له بالغيب.
لذلك قلت إن الكلام سيكون فلسفيا خالصا ولا يشترط في القاريء أن يكون مؤمنا بالإسلام ولا بالنبي بل يكفي أن يكون داريا بمعنى النظرية وتطبيقها.
التفسير الفلسفي للقرآن يتعامل معه وكأنه ظاهرة مثل الظاهرات الطبيعية دون اغفال كونه من طبيعة الظاهرات الرمزية العائدة على ذاتها.
وهو تفسير يفترض أن لهذه الظاهرة قابلية الدرس بالفرض العلمي حول طبيعتها ودورها انطلاقا مما تقوله عن نفسها ومما تحقق بفضلها في التاريخ الفعلي.
وفرضنا العلمي هو: “القرآن مصنف نظري في الاستراتيجية السياسية والتربوية هدفه توحيد الإنسانية (وهو الغالب على القرآن المكي) وهو مصنف مشفوع بتجربة عينية لتطبيقه في التاريخ الفعلي ( وهو الغالب على القرآن المدني».
والتجربة العينية التي تعد جزءا تطبيقيا منه هـي السنة أي أقوال الرسول وأفعاله بوصفه حصرا مبشرا ونذيرا خلال تحقيق العينة التي هي دولة الإسلام الأولى.
ولهذا كان عنوان التفسير: “الجلي في التفسر: استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية”. ولا صلة لهذا بأصناف التفسير التقليدية.
طبعا لم أكن أنتظر أن يعتبره تفسيرا من تعودوا على أصناف التفسير التقليدية ولا أن يصبروا على قراءته فهو يبدو خارج إطار الاختصاص بالكلية.
شرح سريع للآيتين
ماذا تقول الآية 105 من الإسراء: الانزال والنزول كلاهما بالحق. وإذن فالحق في الإنزال هو طريقته الإنزال. والحق في النزول هو المضمون المُنزل. القرآن حق طريقة ومضمونا.
ذلك أن الحق المضموني يمكن ألا يكون منهجه حقا. والمنهج الحق يمكن ألا يصل إلى الحق المضموني. والقرآن يتضمن قاعدة أن الله كامل فلا ينهج إلالا منهج الحق.
ولا شيء يمكن أن يحول دونه وتحقيق ما يريد وإذن فهو يصل إلى المضمون الحق : فهو فعال لما يريد وعلى كل شيء قدير.
على كل هذا ما يقوله القرآن. ولن أبحث في صدق ذلك أو عدم صدقه لأني قلت سأتعامل معه وكأنه ظاهرة طبيعية. فإذا النار أحرقت فكأنها قالت إني حارقة ولا معنى لتصديقها أو تكذيبها.
ذلك أن الظاهرات نوعان : ظاهرة صامتة فعلها ينطق عن ذاته مثل النار وظاهرة ناطقة تعود على فعلها وتسميه أو تحدده وتلك خاصية الإنسان وكل الرموز التي ينطق مبدعها بدلا منها.
وإذن فلا معنى لوضع مشكل التصديق والتكذيب فالبحث في هذه الحالة يذهب من أعراض الظاهرة بوصفها علامات سيؤولها من خلال الفرضية النظرية التي يضعها.
هنا المتكلم هو مبدع القرآن (الله) وهو محدد منهج إنزاله والمضمون المنزل وكلاهما حق. ولا مبرر للكافر فضلا عن المؤمن أن يتجاوز النص إلى ما ورائه إلا في فرضية علمية ولا تعنينا المواقف العقدية.
ذلك أن الفرضية العملية تنتسب إلى القضايا لا إلى المواقف القضوية : فهي من الإبستمولوجيا وليس من الابستمك. ليست موقفا قضويا بل قضية مطلقة دون موقف.
بأي معنى استعملنا مفهوم الاستراتيجيا؟
وفرضيتنا هي أنه استراتيجية توحيد سياسية وتربوية للإنسانية كلف بها رسول وحدد دوره فيها حصرا بوصفه بشيرا ونذيرا للناس جميعا. هذا مضمون الآية الأولى.
لكن من أين جئنا بـ”استراتيجية توحيد” سياسية وتربوية لتحقيق عينة في التاريخ الفعلي؟
فالآية الثانية حددت ذلك بتعليل تنجيم القرآن : هو للتعليم المتدرج. والتدرج في التعليم هو جوهر التربية لأنه يعني أن اكتساب الملكة في أي مجال يقتضي النضوج المتدرج حتى تصبح من أحوال الذات.
ثم وهذا هو بيت القصيد: فبعد الإنزال بالحق والنزول بالحق جاء الكلام على التنزيل المصحوب بالمفعول المطلق: نزلناه تنزيلا.
فالرسول والإنسانية لهم نماذج للتنزيل التاريخي لكليات النص على النوازل العينية الحادثة فعلا في التاريخ الفعلي وذلك هو جوهر الفقه وأساس أصوله.
ولما كان الفقه يعني الشرع الذي هو جوهر التشريع الذي هو جوهر الحكم فكان ذلك البعد الثاني من الوظيفة : بعد التربية تأتي السياسة.
وإذن فتنجيم القرآن يهدف لغايتين: ليقرأه على الناس على مكث (تعليم) ولكي يتدبر تنزيل القرآن على النوازل التاريخية (تشريع سياسي). وتلك هي دلالاته العينية في السياسة وفي التربية.
لكنه في ذلك كله إنما هو مبشر (بثمرات ما يأمر به القرآن) ومنذر(بعواقب ما ينهى عنه القرآن) بمبدأ أساسي فيه احترام لحرية الإنسان ومسؤوليته: “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”.
وذلك هو شرط تكوين العينة التي ستبني دولة الأحرار لتكون النموذج التاريخي الفعلي للأمة وللإنسانية : عصر الراشدية والفاتحين.
تحدد الآن مجال النشاط الإنساني الذي هو موضوع البحث (الاستراتيجيا السياسية والتربوية) لتوحيد الإنسانية حول القيم ألتي جاء بها القرآن: الحق.
ما المقصود بالحق القرآني؟
و”الحق” تعني أصناف قيم القرآن الخمسة : القيم المعرفية (صدق-كذب) والقيم الخلقية الخلقية (خي-شر) والقيم الجمالية (جميل-دميم) والقيم الجهوية (حر-مضطر) والقيم الوجودية (باق-فان).
والملاحظ أن القرآن أضاف قيمتين كانت الفلسفة القديمة والوسيطة خاليتين منهما وهما أصل كل دين وكل فلسفة تعي بوحدتها الجوهرية معه الرؤية الدينية للوجود.
فالقيمتان الإضافيتان تميزان بين الحر والمضطر وبين الباقي والفاني أعني جوهر ما به الإنسان إنسانا : لأن التكليف مشروط بالمقابلة طوعا وكرها وبين تجاوز الدنيوي والإخلاد إليه.
فلو كان كل شيء مضطرا لاستغنينا عن الشرائع إذن تكون الطبائع كافية لتفسير الوجود وإضفاء المعنى عليه. لكن الإنسان يتجاوز الطبائع إلى الشرائع.
ثم إن الإنسان عند تعميق النظر يجد أن الطبائع نفسها لا تكتفي بنفسها لأنه من الممكن وليست من الواجب. ومن ثم فلا بد أن يكون لها ما يجعلها تنتقل من الإمكان المجرد إلى الحصول الفعلي.
فهي كلها من جنس الممكن لا الواجب الذي مجرد إمكانه يوجب وجوده. وفي ذلك يكمن أهم أدلة وجود الخالق والمشرع : ألا له الخلق والأمر.
تلك هي علة الحاجة إلى الإيمان: فانتقال الممكن من العدم إلى الوجود ينبغي أن يكون فعل إرادة حرة تفضل الوجود على العدم فتوجد إنيته وتعين ماهيته.
وهذا هو الجواب عن السؤال الأول للفلسفة: لماذا يوجد شيء بدل العدم؟ ولماذا يوجد على ما هو عليه من الكيفيات التي غيرها لا يقل عنها إمكانا؟
من البيان إلى الإثبات
بينا ولم نثبت أن الآيتين بحد ذاتهما تكفيان لتحديد طبيعة القرآن وتعليل الرسالة وتحديد طريقتها لتحقيق مضمونها والمكلفين بتنفيذ العينة التاريخية في التاريخ الفعلي.
أما الإثبات فالقرآن هو الذي ينصحنا بطريقة تحقيقه وهي الطريقة المناقضة تماما لخرافة الإعجاز العلمي ولخرافة إسلامية المعرفة: فالآية 53 من فصلت هي الحاسمة.
لن نتحقق من خلال تفسير النص بل من خلال البحث في الآفاق (علوم الطبيعة) والأنفس (علوم الإنسان) عما يرينا أنه الحق كما قال: الإسراء 105 و106.
لماذا اعتبرنا علوم الطبيعة هي الآفاق واعتبرنا وعلوم الإنسان هي الأنفس؟ لحاجتين إحداهما يمكن اعتبارها أساس فلسفة الدين والثانية أساس فلسفة التاريخ وهما بعدا الرسالة القرآنية وأساس أي فلسفة تطلب معنى الوجود.
وسأبدأ بفلسفة التاريخ لأنها هي التي تعلل فلسفة الدين معرفيا. أما فلسفة الدين فتعلل فلسفة التاريخ وجوديا والثانية تعلل الأولى وجوديا. نعلم أن وراء التاريخ ما وراء لعدم اكتفائه بذاته في حاضره سواء التفتنا إلى حدث ماضيه وحديثة أو إلى حديث مستقبله وحدثه.
فالحاضر هو المرجل الذي يغلي فيه حدث الماضي وحديه وحديث المستقبل وحدثه : والحديثان أكثر فاعلية من الحدثين لأنهما تجلي معناهما للوعي الإنساني.
فما الحاجة إلى فلسفة التاريخ؟ تعريف الإنسان في القرآن يتضمن بعدين رغم ما يتضمنه كذلك من ذم لجل صفاته الخلقية. لكن ذلك لم ينف أن للإنسان فيه منزلة سامية في رتب الوجود.
فهو أولا مستعمر في الآرض ومن ثم فتعميره إياها هو مناط تقييمه بعد التوبة عليه في شبه امتحان لوعد المستغفر الذي تاب فعفا عنه واجتباه في شبه رد على تحدي إبليس (رمزا لامتحان الإرادة أمام الغريزة).
وهو ثانيا “مستخلف فيها” بالقوة وهذا وصف لكل أبناء آدم. ويصبح مستخلفا بالفعل إذا هو عمل بقيم القرآن أو مستبدلا به من هو أفضل منه أهلية للاستخلاف.
وهذا هو قانون التاريخ في منطق التنافس بين الأمم أحيانا على الفضائل وأحيانا على الرذائل ولذلك ففلسفة التاريخ هي بالجوهر حرب دائمة بين البشر.
سؤال فلسفة الدين إيمانا وإلحادا: العدل الإلهي.
وحينئذ يأتي سؤال فلسفة الدين الأساسي موجبه وسالبه: إشكالية معنى التاريخ والعدل الإلهي. فما نعيشه الآن من مآس وجرائم في حق الشعب السوري يدفع إليها دفعا.
فنفهم حينئذ أن فلسفة الدين هي ما وراء فلسفة التاريخ. وقد قال هيجل تأسيسا لفلسفته في التاريخ وتعليلا لمآسيه إن التاريخ “ثيوديسيا” أي نظرية في العدل الإلهي.
وبين أن هذا كلام المتفائلين. لكن المتشائمين يمكن أن يعتبروا التاريخ مصدر نظرية في الظلم الإلهي: فهو يثبت أن الظلم والقهر يكادان ينفيان دوره أو يثبتان عجزه.
وهذا من أهم منطلقات الملحدين. والاستدلال هو: إذا كان الله قادرا وخيرا فلماذا يسمح بكل هذا الظلم في التاريخ؟ وطبعا فالتفسير بغضبه قاصر غير مقنع.
الحل الإسلامي لمسألة العدل الإلهي.
لكن الإيمان كما يعرفه الإسلام لا يعتبر الظلم في التاريخ نتيجة لسلوك الظالمين وحدهم بل هو نتيجة لسلوك المظلومين خاصة. فكيف هل المظلوم هو المسؤول؟
نعم المظلوم هو المسؤول لأنه ظالم نفسه. ألم تقل الآية الأولى بالحصر إن النبي إنما أرسل بشيرا ونذيرا؟ ألم يحدد القرآن في الآية 60 من الأنفال شروط الاحتماء من الأعداء أي منع ظلمهم له ؟
هل لو عمل بها المسلمون كانوا يصلون إلى هذا التردي والتحول إلى ما سماه ابن خلدون بـ”العيال” على الغير لفساد معاني الإنسانية عند العيال؟ أليس المسلمون مسؤولين عما هم فيه؟
التاريخ لا يبين ظلم الله بل ظلم الإنسان لنفسه: الله جعله حرا ونبهه إلى ما عليه فعله ليبقى حرا. فاختار الاخلاد إلى الأرض فصار عبدا لغرائزة.
ومن صار عبدا لغرائزه يصبح عبدا لغيره من المتحكمين في شروط سد حاجاته حماية (آمنهم من خوف) ورعاية (أطعمهم من جوع). تلك هي حال المسلمين فـمن المسؤول؟
والقرآن حدد السنن الثابتة التي لا تتبدل والتي تجعل التاريخ مسرحا للاستبدال وللاستضعاف والاستتباع. وهذه السنن هي أشبه بالقوانين التاريخية هل احترمها المسلمون؟
فلننس المسلمين: أليس ذلك هو ما يحصل لأي أمة تخلت عن سنن التاريخ (الآية 60 من الأنفال أهمها) الذي هو صراع عن وراثة الآرض بشروط التكليفين؟
فشروط التكليف الأول أي الاستعمار في الارض راسها شروط القوة المادية وشروط التكليف الثاني أي الاستخلاف فيها رأسها شروط القوة الروحية.
ختاما: المسلمون لم يحافظوا إلا على قشور شروط التكليف الثاني (الاستخلاف). ولم يبق لهم شيء من شروط التكليف الأول (الاستعمار في الأرض). فهل لهم بعد ذلك حجة للجدال في العدل؟
تلك هي العلة التي تجعلني أمقت كثرة رافعي الأيدي بالدعاء الذي لا يدل على الإيمان الصادق بل على التفريط في ما يفرضه الإيمان الصادق من العمل بقيم القرآن.
الدعاء لا يكون مقبولا إلا في ما ليس من مستطاع المكلف. فالله يحاسب بمقتضى التكليف المسؤولية وهو لا يكلف نفسا إلى وسعها فإذا حصل ما يتجاوزه أعانه.
فإذا ساعد الإنسان في ما يستطيع مما كلفه به كان في ذلك عين الظلم. فهو إما محاباة للبعض أو تعميم يغير السنن التي قال الله إنها لا تتحول ولا تتبدل.
ففي هذا الحالة لن يكون الله منصفا. وتصبح سننه قابلة للتحول والتبدل وهو نقيض حكمته وقوله. وحاشا لله أن يكون غير منصف. فالتاريخ منافسة بقواعد يعلمها المكلف.
والقرآن هو الذي حدد القواعد. فالمسلمون -وأي شعب آخر- انحطوا لأنهم لم يحترموا القواعد. فإذا تدخل الله لمساعدة من لم يساعد نفسه يكون كمن لم يحترم القواعد التي وضعها.
والأهم أن التدخل في هذه الحالة يفسد معايير الحساب يوم الدين: الله سيحاسب الناس على أقوالهم وأفعالهم. فإذا أصبح تدخله بديلا منها فسد الحساب.
معنى الماوراء التأسيسي للعلم والعمل.
ولأعد إلى البداية: فهذا هو معنى “استراتيجيا القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية” فرضية علمية حول تحديد طبيعة الخطاب القرآني قابلة للامتحان.
ولا يعني ذلك أن القرآن علم بمعنى تضمنه منظومة قوانين الطبيعة أو حتى سنن التاريخ من جنس ما يطلبه أصحاب خرافة الإعجاز العلمي بل معناه أنه ما وراء تأسيسي للعلم والعمل الإنسانيين فرديا وجماعة في العالم كله.
ولأشرح القصد بما وراء العلم والعمل أو حقيقة الرسالة الإسلامية. فالعلم أو العمل يمكن أن يكون متعلقا بموضوعه وأن يكون عائدا على ذاته ليعلمها ويعملها. فمن حيث تعلقه بموضوعه هم علم لموضوع غير ذاته وعمل لغيرها. ومن حيث تعلقه بذاته هو ما وراء ذلك العلم أو العمل: علم العلم أو عمل العمل.
ومستويا العلم والعمل ليسا من نفس الطبيعة: ولنكتف بالكلام في مستوي العلم. وما نقوله عليهما قابل للتعميم على مستويي العمل: لأن العمل لا يكون عملا بحق إلا إذا كان على علم.
فعلم علم الرياضيات مثلا ليس رياضيا وعلم علم الاجتماع ليس اجتماعيا وعلم علم الطبيعة ليس طبيعيا بل هي جميعا ما وراء تلك العلوم مستوى عائدا عليها ليؤسسها.
فعندما أحدد ما وراء الرياضيات من حيث هي فعل عقلي بمنهج منطقي يبدأ بتحديد موضوعه وأدوات علاجه فما أقوم به حينها ليس فعلا رياضيا بل هو فعل ما وراء الرياضي.
ولنأخذ مثالين من تحديد الرياضيات تحديدا هو ما وراءها: نبدأ بالأحدث. فقد حدد ديكارت الرياضيات الكلية بأنها علم القيس والترتيب أي بفعلين يقوم بهما العقل الرياضي وليس بمجال معين يقاس أو يرتب.
فهل هذا التحديد يمكن أن يكون رياضيا؟ هو مابعد رياضي. فديكارت بذلك لم يقم بفعل رياضي بل ما بعد رياضي يحدد طبيعة الرياضي.
وهذا التحديد يحصل بصورة لا يمكن أن تكون رياضية بل هي إن تسامحنا فلسفية ميتارياضية وليست متافزيقية لأنها لم تتكلم في موضوع فيزيائي بل في فعلين إنسانيين : القيس والترتيب.
والتحديد الأقدم أرسطي. وهو يحدد الرياضيات بما يشبه ذلك رغم تغليب القراءات التقليدية لفكر أرسطو التحديد الميتافيزيقي بموضوع وليس بفعل: نوعي الكم المتصل والمنفصل.
لكن التحديد الأرسطي كما بينته في رسالة الحلقة الثالثةLe statut des mathématiques dans le discours scientifique d’Aristote أحدث حتى من تحديد ديكارت لأنه عرف الرياضيات الكلية بكونها علم ما يقبل الزيادة والنقصان.
لماذا هو أحدث حتى من تحديد ديكارت؟ لأن القيس والترتيب فعلان يمكن أن يعتبرا ذاتيين. لكن الزيادة والنقصان هما أساس موضوعي دون موضوع محدد للقيس والترتيب نفسه.
فهو إذن تحديد يجمع بين الذاتي والموضوعي المجردين دون أن يعين موضوع الزائد والناقص بل ترك ذلك لفعل القيس والترتيب الذي يمكن أن يكون كميا أو كيفيا.
ولما كان الأمر متعلقا بالزيادة والنقصان عامة فإنه يشمل كل أنواع التغير التي كان أرسطو يتكلم عليها: الكمي والكيفي في الزمان وفي المكان وحتى في الوجود بإطلاق.
كل شيء يصبح قابلا للترييض بل لا شيء يكون قابلا للعلم من دونه. وفي ذلك صلة مباشرة عند من يتدبر القرآن برؤيته للوجود بكونه رياضي بالجوهر وبصورة عامة ذا نظام قابل للقراءة الرياضية.
وتلك هي العلة التي جعلت أرسطو يؤسس القضية الأولى في كل علم: ما لا يقبل الترييض بهذا المعنى لا يمكن أن يكون علميا. وقد طبقه حتى في الأخلاق (أخلاق نيقوماخوس).
قابلية الخطاب القرآني للصوغ الرياضي
وبهذه الصورة جعلنا الخطاب القرآني هو ذاته قابلا للصوغ الرياضي وهو يعتبر الوجود كله من طبيعة رياضية بهذا المعنى العام.
ذلك أن الاستراتيجيا التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية كلاهما قابل القيس والترتيب علميا وزيادة علمنا بهما ونقصانه : ومن ثم فالعلاج البنيوي لدلالات القرآن قابلة للصوغ الرياضي.
فلما اكتشفنا فرضيا بنية متناسقة للعلاقة بين القرآن والسنة فرضية تحدد طبيعة الخطاب ومنهجه وأدواته وحصيلته القابلة للامتحان فقدصغناه رياضيا.
مفهوم الواقع وثن السذج من المتفلسفة
وهذا هو منطلقنا لتسخيف المتكلمين على الواقع قبالة النص من الماركسيين البدائيين أو المتكلمين منهم على المقابلة بين البنية الفوقية والبنية التحتية وهلم جرا من السخافات.
فما يسمى “واقعا” ليس إلا ما يسميه كواين بالالتزام الوجودي أو بالقيم التي تعطى للمتغيرات في أي قانون رياضي مؤلف من علاقات بين متغيرات مجردة.
وهذا التعيين للموضوع الذي يعد “الواقع” والذي يطبق عليه النسق النظري بوصفه أحد الأعيان الممكنة التي يصدق عليها البناء النظري تابع للنظرية.
ومعنى ذلك أن النظرية ليست أمرا يستنتج من واقع متقدم عليها بل إن ما يسمى واقعا هو أحد الامكانات التي تنتأ وتبرز بوصفها مجال تطبيق تـخلقه النظرية مجالا لتطبيقها وأحد وجوه العالم المجهول.
والغريب أن ذلك لا يصح على العلم وحده بل على كل ما يتأسس على بناء رمزي لرؤية عالم مجهول بالطبع: فالامي لا يرى “واقعا” إذ لا وجود لواقع مرسل بل واقع خرافاته.
فكل ادعياء التأويل الماركسي المتخلف لتاريخ الحضارة الإسلامية لم يتجاوزوا قشور ما يدعون تطبيقه: ابستمولوجيا باشلار وابستمية فوكو وخلطهم بينهما دليل قاطع على الجهل بهما.
ومن حسن حظي أن استاذي في الفلسفة (وقد توفي مؤخرا رحمه الله) تلميذ لباشلار وأنا شخصيا تلميذ لفوكو.وكلاهما يقولان عكس ما فهم أدعياء الحداثة
وليس هنا مجال بيان ذلك. فقد فعلت في غير موضع.والمهم أنه لا يحق لادعياء أن تنتفخ أوداجهم أمام التقليديين فهم على الأقل يعلمون فعلا ما يدعون علمه حتى وإن لم يعلموا أن حصيلته المعرفية شبعت موتا.
البناء الرمزي شرط تحديد ما يسمى واقعا
وتبعية “الواقع” للبناء الرمزي لرؤية العالم هي في العلوم ما يمكن رده لمنهج التجريد التبديهي ولها نظير عكسي في الآداب: هو التعيين التخييلي.
العلم يخلق موضوعه وواقعه بالتجريد التبديهي والأدب يخلق موضوعه بالتعيين التخييلي. وفي الحقيقة كلاهما يعتمد الإبداع الخيالي لواقع مثالي مطلق.
وإذا كان فكرالعرب الحالي عقيما عاجزا عن أن ينتج علما أو أدبا جديرا بهذا الاسم فلأنهم يتصورون العلم درسا لواقع سابق والأدب وصفا للواقع السابق: عين السخف.
وأهم وجوه الإعجاز القرآني من حيث هو رسالة تبليغ هو جمعه بين الأسلوبين العلمي والأدبي في خلق الواقع ضمن النظرية (القرآن) والتطبيق التربوي والسياسي(السنة).
فله أسلوب خلق الواقع المجانس للأسلوب العلمي بالتبديه التجريدي بتعريف المفهومات المجردة التي درس بعضها ايزوتسو مثلا كتعريف الله وتعريف الإنسان وتعريف الرسالة وتعريف النبي وتعريف الأمة وتعريف مجموعة المعاني التي تتكون منها منظومته المفهومية.
وله أسلوب خلق الواقع المجانس للأسلوب الأدبي بالتخييل التعييني في القصص القرآني سواء كان ذا مادة تاريخية فعلية أو ذا مادة نموذجية أمثالا تضرب.
العلم والأدب ضربان من خلق الواقع وليس هما درس لواقع متقدم عليهما. وكلاهما قبلي ومضاعف. لكن القبلية درجتان: للموضوع غير الموجود أصلا وعلمه (المقدرات الذهنية على الإطلاق) أو للنموذج العلمي لموضوع حددته ممارسة علمية أدنى.
الأول يخلقه ليدرس قوانين مجردة تساعد في التعامل مع العالم المادي المجهول بالجوهر سواء العالم العقلي المطلق أو العالم الحسي المتعين دون تحديد مفهومي.
والثاني يخلق واقعا ليصف دراميا جريانه في أفعال الإنسان بصورة عينية غير موجودة خارج العمل الأدبي وتمثل عالما روحيا يضيء عالم الروح المجهول أكثر من العالم المادي بنفس ذينك المعنيين العقلي والحسي.
ولما كان هذا الموقفان منعدمين لدى “العلماء” و”الأدباء”العرب حاليا فإن ما نراه ليس علما ولا أدبا بل جهل بشروط تعامل مع العالم ماديا وروحيا.
فلا تغتروا بكثرة العناوين “د” وبانتفاخ أوداج أصحابها ولا خاصة بانتفاش أعراض داء العظمة الكاذبة لدى بعض الأدباء والشعراء: فاختمار عقولهم لا ينتج إلى البخار.
وما يسمى بالأدب الواقعي لا أعتبره أدبا ولا تاريخا بل هو من جنس الصحافة المأجورة التي تتصور وصف الأعراض علما وفنا وهما أكل للقش والنخالة.
ومن أخطار هذين السلوكين أنهما يجعلان ما يسميانه واقعه نموذجا لما يليه: ولعل أسوا مثال هو السينما المصرية. فبها قد تصبح كل نساء مصر عاهرات وإماء العجل.
منزلة الفن في الإسلام
وهل يوجد أغبى من أمة تترك الإبداع الأدبي للأقليات التي تعادي روحانيتها بالجوهر فتفتح الباب للغزو الروحي بسذاجة: مثال الفن كان في تونس لليهود وهو لا يزال في مصر ولبنان للمسيحيين؟
وهذا التخلي عن الإبداع الفني -جميع الفنون- من أهم المداخل للغزو الثقافي في تاريخ حضارة المسلمين بسبب تحجر فكر الفقهاء. ذلك أن موقف الحد من تأثير الفن ليس خاصا بالدين.
فحتى الفلسفة لها ما يشبهه. والمثال المشهور هو موقف أفلاطون من الشعراء. لكن أفلاطون لم يلغ الفن بل اختار أنواعا جعلها مغنية عن الفن الذي يعتبره خطرا على تربية الشباب.
مشكل الفقهاء أنهم اساءوا فهم المعيار القرآني للفن البديل : وهو قد جاء في الكلام على الشعراء (تماما كما جاء كلام أفلاطون عليهم). فالقرآن لم يعب الشعر بل عاب على الشعراء أنهم يقولون ما لايفعلون.
طبعا لو فهم هذا بمعنى الواقعية الأدبية لكان القرآن في ذلك منافيا تماما للرسالة التي جاء بها : فخطابه ليس خاضعا لمعيار الواقعية بمعنى اعتبار الحياة الدنيا هي الواقع.
ونفس الأمر يقال عن الفن : واجب قول الشعراء ما يفعلون ينبغي فهمه ما يقوله الشعراء هو هذا العالم المثالي الذي بالقياس إليه يتحدد الواقع في عالم كله مجهول. وذلك هو دور الفن الراقي في مجال العالم الروحي مثل العلم في مجال العالم المادي.
هذا هو الفصل الأول من المحاولة في هذه القضية الجوهرية. وسيليها ما يبين أن الفرضية التي وضعناها كافية لاستنتاج ما عليه تستند كل علوم الملة التي أصلها ثابت في القرآن والسنة.
والهدف ليس إحياء ما مات من علوم اللمة بل إعادة التأسي على أسس أكثر فاعلية لأن الميت من العلوم تنتهي صلوحيته بسبب عدم سوء التأسيس.