عن الفساد والمدونة القانونية والإرادة السياسية
قبل ثلاثين عاما، انطلقت، في باليرمو، محاكمة كبرى لزعماء كوزا نوسترا، المافيا الصقلية، وعدد من أفرادها. بلغ عدد المتهمين نحو 500 وانتهت المحاكمة٬ بعد عام ونصف، بمجموع أحكام بالسجن تجاوز 2500 عام.
انطلقت المحاكمة، التي جرت في مكان شديد الحراسة (مجهز حتى بدفاعات مضادة للطيران)، بمحاولات لتقويضها، لعلّ البعض يتذكّر مشهد زوجات زعماء المافيا ومساعيهن لكسب تعاطف الرأي العام بالصراخ والعويل.
كان يرأس المحكمة القاضي ألفانسو جيوردانو. في إحدى الجلسات الأولى للمحاكمة، فوجئ الرجل بأحد زعماء المافيا يصرخ في وجهه ويقول إن المحاكمة غير قانونية، طلب جيوردانو توضيحا فردّ المافيوزو قائلا: يجب تلاوة لائحة الاتهامات. فهم جيوردانو مغزى الملاحظة فلائحة الاتهمات جاءت – إن لم تخنني الذاكرة – في 15 ألف صفحة والقانون الإيطالي يقرّ بوجوب تلاوة اللائحة مهما كان طولها. بدهاء كبير، طلب جيوردانو رفع الجلسة، متعلّلا بالإرهاق وغادر القاعة متّجها لمكتب اتّصل منه بصنّاع القرار في روما. “تلاوة 15 ألف صفحة سيستغرق لأسابيع. عليكم الآن أن تثبتوا نيتكم في التصدي للمافيا”.
لا أذكر، الآن، كم استغرق الوقت لكي يتدخّل البرلمان الإيطالي وينقّح القانون بجعل تلاوة لائحة الاتهام أمرا اختياريا لكنّي متأكّد بأنّه أسرع تنقيح في تاريخ إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية وقد أكّد لي ذلك بينو أرلاكي، قبل سنوات، وهو مساعد القاضي جيوفاني فالكوني الذي اغتيل لاحقا على خلفية المحاكمة الكبرى.
أطلت في ضرب هذا المثل. لكن، من المهمّ أحيانا أن نعود لمشاهد وحالات سابقة ونحن إزاء سلطة ترعى الفساد وتشرّع له، حينا، وتتغافل عنه وتتحاشاه، حينا آخر،
وقد خرج علينا الوزير الأول، في لقاء تلفزي، ليقول إن مكافحة الفساد هي أولوية الأولويات لحكومته قبل أن يستدرك ويرمي بالكرة في ميدان المشرّعين والمؤسسة القضائية بمبرّر سخيف مفاده أنّ المدوّنة القانونية غير كافية وهو أمر غير دقيق. وما عليكم سوى مراجعة الفصول من 82 إلى 115 من المجلة الجزائية، على سبيل المثال لا الحصر.
زد إلى ذلك أن الوزير الأول أعلن نية استصدار إطار قانوني جديد لمكافحة الفساد، نهاية العام الجاري، أي خلال ثلاثة أشهر، وهي فترة كافية لمزيد استشراء الفساد والحال أن الرجل يقول إن مكافحته هي أولوية الأولويات.. لكن في غضون ثلاثة أشهر.